٢٤ فبراير ٢٠٠٩

شرود


« هيا يا ( فكرى ) سيبرد الغداء » ..
صاحت بها ( سامية ) زوجة العالم الحاذق الدكتور ( فكرى ) ، ثم زفرت قائلة :
– يبدو أنه عاد للسهو .
ثم نهضت و اتجهت للقبو الذى يقوم فيه بتجاربه الزراعية ، و لكنها اصطدمت به و هو يخرج فتبسم قائلاً :
– أخبرتك يا عزيزتى أننى أتجه للتوقف عن السهو ، بعدما أوصانى الدكتور ( أحمد ) ببعض تمارين الذاكرة الرائعة .
ثم ربت على رأس طفله ذو الخمسة أعوام ، وقال له فى ودّ :
– كيف حالك يا ( شريف ) ؟
أجابه الطفل مبتسماً :
– بخير يا بابا .
ثم تناول معهما الغداء قائلاً :
– لن تتصورى يا ( سامية ) الى أى مدى يمكننى النجاح ، إذا ما خرج جهاز النمو الفائق الذى أعمل عليه الى النور ، تخيلى معى أبقاراً ضخمة لإنتاج ألبان أكثر ، أو دجاجاً كبير الحجم يقضى على مشكلة اللحوم ؟
قالت بدهشة يغلفها الإعجاب :
– اختراع رائع .
ابتلع لقمة ضخمة بصعوبة ، ثم مط شفتيه قائلاً بمرارة :
– و لكن المشكلة فى تكلفة إنتاج جهاز كهذا ، فالمكونات المطلوبة لتشغيله بضغط مجموعة صغيرة من الأزرار ، بدلاً من أساليب العلماء الطويلة و المعقدة ، تتكلف ما لا يقل عن 100 ألف يورو للجهاز الواحد .
شهقت للمبلغ ثم قالت لتشد من أزره :
– اطمئن ستجد طريقة لتقليل التكلفة .
و لكنه لم يجد طريقة حاسمة لفعل هذا ..
حاول على مر الأيام السابقة تحقيق هذا ، و لكن المستحيل بدا أقرب ، بل زاد من حنقه أن جهازه وصل لنسبة إنماء 60 % بنجاح منقطع النظير ..
و فى الأسابيع التالية ، بلغ من فرط توتره ، أن أفشى بفكرة أبحاثه الخاصة لبعض أصدقاؤه فى المختبر التابع لوزارة الزراعة ، الذى يعمل به ، بعد استفحال مشكلة تكلفة الإنتاج ، و زاد من عصبيته أن جهة انتاج غير مصرية ، طلبت التعاقد معه و تمويله و الحصول على سر الإختراع لإنتاجه ، و رفض بالطبع لأن أساس بحثه هو خدمة وطنه ، و تحفيز الإقتصاد المصرى ..
و قفزت أعصابه لذروتها ، حتى أنه عاد لعادة السهو المزعجة ، فالأبحاث جشمته أموالاً طائلة ، خشى معها أن تنهار حياته فلجأ لرهن ممتلكاته دون علم ( سامية ) زوجته ، كما أنه حاول مع المسئولين الإقتصاديين مِراراً ، دون أن ينجح فى تجاوز العقبة الكبرى ..
التكلفة ..
و فى أحد الأيام التى يضطر فيها للإبتسام أمام أسرته الصغيرة ، رغم الديون الرهيبة عليه ، و على مائدة الغداء ، صبت ( سامية ) كوب ماء للطفل ، و هى تفكر أن ما يثقل كاهل زوجها مجرد عثرة التكلفة ، ثم قالت نفس عبارتها :
– اطمئن ستجد طريقة لتقليل التكلفة .
ثم أضافت و هى تناوله طبق السلاطة :
– هذا بالنسبة للإقتصاد أمن قومى و ليس أى كلام .
انعقد حاجباه مع عبارتها ، و الفكرة تقفز الى عقله النابه من فورها ..
ثم تتبلور ..
ثم تختمر ..
و ببطء غمم لنفسه :
– نعم و لما لا ؟!
و عاد يحاول مع المسئولين ..
هذه المرة العسكريين منهم ..
كانت فكرته المجنونة تعتمد على أن الكلمة العليا ستكون للأمن القومى فى حالته ، و أن استخدام جهازه لصنع جنود عمالقة ، يبلغ طول الواحد منهم متران و نصف كحد أدنى ، سيدفع المؤسسة العسكرية بحماس لمد يدها اليه ، و بالتالى انقاذه من ضائقته المالية العنيفة .. لم تعد أزمته أزمة عالِم ، لقد أضحت أزمة حياة أسرة ..
و هنا ظهرت عقبة جديدة ..
فالمشكلة شرحها له المسئول العسكرى ، عندما حك شاربه الكث ، و قال :
– لابد من متطوع لتجربة الجهاز .. متطوع بشرى يا دكتور .
فى البداية اعتقد ( فكرى ) أن الأمر بسيط ، من لا يرغب فى أن يكون عملاقاً ؟ أكيد نسبة قليلة .. لكن و بعد أن تم طلب متطوعين عبر إعلان بالجريدة ، و بعد أن يوافق المتطوع مبدئياً ، كانت الأمور كلها تتعقد عند توقيع إقرار تحمل المسئولية الشخصية عن أى نتيجة للتجربة ..
بما فيها الوفاة ..
و تعقدت الأحداث أكثر و أكثر ..
و فى يوم على الغداء ، و كان معزوماً لديهم دكتور ( أحمد ) ، قالت ( سامية ) بفخر :
– لقد حصل ( شريف ) على درجات طيبة و مرتفعة بامتحانات هذا الشهر .
ضحك الدكتور ( أحمد ) معلقاً :
– يقول المثل : « ابن الوز عوام » .
لم يبدُ ( فكرى ) مندمجاً معهم ، فسأله الدكتور ( أحمد ) بخبث :
– هل عدت للشرود مجدداً ؟
أجابه ( فكرى ) و هو يحك لحيته المهملة النامية :
– ليس الشرود هذه المرة يا ( أحمد ) ، إنها فكرة مقلقة عن مستقبل ( شريف ) ، مستقبلنا جميعاً .
توقفت ( سامية ) عن المضغ بحدة ، و هى تتساءل بقلق عميق :
– ماذا عنه ؟
انتبه ( فكرى ) لسؤالها الناتج عن سهوه ، و لإهتمام ( أحمد ) فهز رأسه و كأنما يستفيق ، و التقط ملعقته قائلاً :
– لا شئ مجرد خاطر .
نظرت اليه بشك قلق ، فابتسم ( أحمد ) و قال ملطفاً :
– انه مستقبل كبير يا رجل ، أنت عالم مجتهد و ناجح بشهادة التلامذة قبل الأساتذة ، رغم أنك لم تتجاوز الأربعين من عمرك بعد ، و واضح أن الإبن مثل أبيه ، انه مستقبل كبير .. كبير .
انعقد حاجبا ( فكرى ) و كلمة صديقه تضرب ضميره و روحه بسوط من لهب ..
« المستقبل كبير » ..
« كبير » ..
« كبير » ..
كلا إنه ليس هكذا فى الحقيقة التى حاول إيهام حتى نفسه بها ..
فالمستقبل يبدو مظلم ..
مظلم ..
مظلم ..
ثم ارتفعت الطرقات على باب المنـزل ، و اتسـعت عينا ( فكرى ) قبل حتى أن يقول الطارق :
– هذا حكم من المحكمة .
آه .. إنه مُحضَر ..!
الدائنين لم يصبروا على توسلاته بالإنتظار ..
هذا حكم بالدفع أو الحبس ..
إنه السجن ..
و النهاية ..
و بذعر صاح ( فكرى ) و هو يتراجع :
– لا .. لا .. لا .
و دون أن يدرى و جد نفسه يهبط الى القبو ، ثم يغلقه جيداً خلفه و ( سامية ) تطرق باب القبو صائحة فى ارتياع :
– ( فكرى ) .. ( فكرى ) .
و بعينان متسعتان أشعل ( فكرى ) جهازه ، و ضبط مؤشراته ، و كميات الطاقة ، و قد عربدت فى عقله فكرة واحدة ، سيجرب جهاز النمو الفائق على نفسه ..
لن يخسر حياته بتلك البساطة ..
لن يفعل ..
لن يفعل ..
و غاص داخل ذلك الغلاف ، ثم أغلق الدائرة الأخيرة ..
و سمع ( أحمد ) و الزوجة و الطفل خارج القبو فحيحاً خافتاً ، أعقبته قرقعة قوية ، لينتهى الأمر ..

* * *
كان ( فكرى ) يرقد فوق فراش وثير دافئ ، عندما شعر بتهالك ، و لكنه ابتسم و هو يستعد لمشاهدة نفسه عمـلاقاً بعد تعرضه لأشعة النمو الفائـق التى ابتكرها و اختبرها ..
ترى هل يوجد دليل أفضل من نفسه ، عندما يعود لذلك المسئول العسكرى المتحذلق ؟ ثم ضحك و هو يتخيل الصـدمة التى ستبدو على المسـئول عندما يراه ، كم سيكون هذا جميلاً و ممتعاً !
و لكن المكان كان غارقاً فى الظلام ، اللهم بصيص من إضاءة الشارع تتسلل عبر خصاص النوافذ ، و لم ينتظر حتى أن يشعل الضوء ، و أسرع يشرئب برأسه أمام زجاج النافذة القريبة المفتوح ..
و أطلق ( فكرى ) صرخة رعب هائلة ..
كانت المفاجأة عنيفة ، و ترج من الأعماق ..
كان حجمه أقل من المتوقع ، بل أقل من حجمه السابق الطبيعى ، و ليس هذا ما أصابه بالهلع تحديداً بل كان منظره المخيف ..
كان انعكاس صورة وجهه ، لمسخ عميق التجاعيد ، لم يطالعه من قبل فى أردأ المرايا صنعاً ، بل و فى أسوأ أحلامه ..
و هرعت شابة الى غرفته ، و أشعلت الأضواء ، و هو يهتف بها فى لوعة :
– ( سامية ) .. النجدة .
و لكن النور نقل اليه مشهد لأخرى ، ليست ( سامية ) قالت له بحنان :
– أنا الممرضة ياسيدى ، حمداً لله على عودتك الينا ، اطمئن كل شئ على ما يرام .
حاول النهوض بكل طاقته ، و لكنه اكتشف فى ذهول أن هذا مستحيل تماماً بدون مسـاعدة ، و هكذا طلب فى ارتياع و إصرار أن يعود الى معمله ، و لقاء ( سـامية ) هناك ، و لسبب ما ربما طبى ، وافقت المستشفى التى وجد نفسه بها على تلبية رغبته ، و هناك راح يتفحص أوراقه القديمة ، دون أن يستطيع مغادرة فراشـه بإنتظار زوجته ..
كانت الصدمة من نصيبه هو و ليس المسئول ، و المعمل يبدو شديد القدم ، و الأوراق مصفرة و كأنما لم يتركها منذ قليل ، و راح يحاول بنفسه إيجاد تفسير لما يقاسيه ..
كان أقرب التصورات التى نقلها اليه فحص جهازه ، أنه شرد أثناء تجهيزه للتجربة على البشر ، فجعل النمو أفقى فى السن و ليس الحجم ، فصرخ بصوت واهن :
– كلا .. لقد تقدمت فى السن 30 عاماً على الأقل بسبب الـ.. لا .. لا .. هذا لا يحدث فى الحقيقة .
« حساباتك صحيحة يا عزيزى » .
التفت ببطء الى المتحدثة ، ولم يتعرف تلك العجوز الشمطاء فى البداية ، قبل أن يرتد فى فراشه متمتماً والصدمة تكاد تقتله :
– ( سامية ) ؟!!
قالت الزوجة التى تبدو طاعنة فى الثمانين ، و هى تتوكأ على عصاها و كأنما لم تسمعه :
– لقد توقعت أن تفيق .. أنت فى المعتاد تغادر شرودك بعدها ، و لكن هذه المرة امتد شرودك الأخير لعشـرين عاماً كاملة .
ياإلهى !!
20 سنة !!
لهذا يبدو أنه شيخ فى التسعين ، إذا ما جمعنا 20 زائد الثلاثين عاماً التى أضافها الجهاز ، بالإضافة الى عمره الأصلى يصبح تسعين .. و سألها بنفس لهجته وشفتيه ترتجتفان لا يدرى أبتأثير الصدمة أم الشيخوخة :
– ماذا عن ( شريف ) .. هل كبر ، أقصد .. هل نجح فى حياته ؟
وضح أنها لا تسمعه بالفعل لوهن السمع الذى أصابها منذ زمن ، و هى تسعل بصعوبة كبيرة ، ثم تقول بعد دقائق من السعال ، بينما تتحسسه فى حب :
– لن أنسى يوم فقدتك ، لقد حطم الدكتور ( أحمد ) باب القبو ، لنجدك و قد شخت بغتة و تجلس ساهماً داخل جهازك اللعين ، و بعد أن استعدت وعيى ، أخبرنى الدكتور ( أحمد ) بأمر المُحضر و كل تلك الديون ، فكانت مصيبتى مزدوجة .
ثم سعلت بضعف و ( فكرى ) تغمره مرارة هائلة ، و من ثَم واصلت :
– لم أكن أعلم معنى الصداقة قبل أن يتصالح الدكتور ( أحمد ) مع كل الدائنين رغم اعتراضى ، و يسجل كل مليم أنفقه فى إيصالات من نسخة واحدة ، و يسلمنى هذه الإيصالات .
سالت دموع ساخنة متأثرة من عينى ( فكرى ) ، و هو يغمغم :
– ( أحمد ) فعل كل هذا ، لابد أن أراه .. و فوراً .
تحسست ( سامية ) شعره الأبيض الخفيف ، و حمل و جهها العجوز الطيب زكريات العمر الضائع ، و هى تقول مبتسمة :
– إن الدكتور ( أحمد ) الذى لم يتوقف عن زيارتك أسبوعياً ، مات متأثراً بأمراض المسنين .
اتسعت عينا ( فكرى ) الدامعتين ، مردداً :
– مُسنين ؟؟!!
كان ( أحمد ) أصغر منه ، ناهيك عن أن ( فكرى ) لم يكن يبتلع فكرة أن أحداً سواه قد شاخ ، و ( سامية ) تواصل فى حنان :
– ( شريف ) الحبيب كبر و حصل على وظيفة مرموقة كما تنبأ له الكل ، بل أنه أصر على دفع كل الديون القديمة لورثة الدكتور ( أحمد ) ، قبل أن يلحق به فى كهولته .
كانت هناك غصة مرارة و ذهول و ألم تكاد تخنق ( فكرى ) ، الذى لم يتصور كل هذه التداعيات الكارثية للحظة واحدة ..
لحظة شرود ..
و قالت ( سامية ) بحنان كبير ، و هى تجلس الى جواره على فراشه :
– لقد توقعت أن تفيق ، و كنت بإنتظارك .
و لم تستطع الممرضة التى تتابع تلك القصة أن تمنع دموع غزيرة ذرفتها مقلتيها ، و ( فكرى ) يحتضن ( سامية ) قائلاً :
– يا رفيقة العمر .. يا رفيقة العمر .
و تسللت أشعة الشمس على استحياء عبر نافذة المعمل القديم ، لتغمر الحبيبين بدفئها ، و تلاشى الزمن كله كما تلاشى من قبل فى لحظات من شرود ..
فقط شرود ..

* * *

بقلم / Essam Mansour
In\ 15 January 2009

هناك تعليق واحد: