31
كان يجلس هناك فى آخر العربة ، فى أول يوم يلاحظ فيه الأمر ..
هو ( هشام حبيب أبو المحاسن ) الكاتب الهاوى ..
هاوى منذ 31 عاماً ، لحظة بدؤه مشوار النشر ..
و لا يزال يصنف ككاتب هاوى ..
هاوى ..
كلمة تمنى لو حذفها بمترادفاتها من القاموس ، تماما مثلما يتمنى حذف نوعيات معينة من المجتمع
، مثل هؤلاء الصبيان اليافعين الذين يملأون عربة المترو ضجيجا ، و لا يكفون عن معاكسة أى شخص يمكن تلفيق تعليق يناسبه ، محتمين بعددهم و اتحادهم ..
مثل ذلك الضخم الغضنفر الذى يرتدى الضيق ، كاشفا عن عضلات هى ارهاب شكلى قانونى ، دون أن يحاول حتى إثبات قوته بنصح الفتية بعدم إزعاج المسنين ..
مثل تلك الفتاة التى أبدت امتعاضها فى البداية من معاكسة أحد الفتيان لها ، قبل أن ينهار مبدئها مع توالى الدعابات و المزاح ، و تبدأ فى الإبتسام له ..
كان ( هشام حبيب أبو المحاسن ) يحوى داخل رأسه الضئيل عقلا جميلا ناقدا و مبدعا ، و كان بعيدا عن أى توفيق – بشكل غريب – لقصصه و مقالاته و رواياته ، و كان يشعر فى هذه اللحظة بأنه بدأ يلاحظ ذلك الأمر السخيف و المضحك فى الآن ذاته ..
انه سيموت ..
سيسلم الروح قريبا ..
و رغم هذا فهو لا يشعر بالإكتئاب فقط بالتحفز ..
*
مترو
اليوم الثانى ..
تعرف بالمصادفة على كاتب صحفى و ليس روائى مثله ، حيث كان الرجل كفيفا و ساعده هو على دخول العربة قبل إغلاق الأبواب المخيف ، الذى ينذر بنهاية الحياة بالنسبة للهلعين ، و عندما أخبره الرجل بطبيعة وظيفته ، تنهد ( هشام ) و قال له بلهجة مذعورة عجيبة لم تخل من هدوءه :
- لقد كتبت عشرات الروايات و القصص ، لأكثر من ثلاثين عاماً ، و لكن تصور أننى لم أصبح معروفا أبدا .. كل هذه القصص لم تجد طريقها للشهرة : ( وراء السماء ) ، ( سهام مخملية ) ، ( لعنة السنة الرابعة ) ، ( قضبان لا تستدير ) ، ( مشروع بوسيدون ) ، ( آذان كبيرة مسدودة ) ، ( بتر ) ، ( كيانات قديمة ) ، ( نبض النجوم ) .. ! كل هذه الروايات .. كل هذه القصص .. تخيل و أكثر !
تنحنح الكاتب الكفيف ، و رفع صوته ليتغلب على صخب الفتية المعتادين :
- حسنا .. اشرح لى فكرة كى يمكننى الحكم بشكل صادق ، رغم أن العناوين تبدو جيدة .. اشرح احدى أفكار قصصك .
ازدرد ( هشام ) ريقه ، و قال بتوتر و كأنه سيخوض سباقا عنيفا ، أو سيحكى لأول قرائه :
- عندك مثلا أحداثا حربية مثيرة عن أبطال ( وادى بحارة ) الفلسطينى الأسطوريين ، و هى مأخوذة عن مقاومة فدائية حقيقية ، و قصة ( بينما ) و هى دراما روائية تحكى عن مجموعة أحداث تحدث بالتوازى فى مدينة واحدة ، أبطالها جاسوس و ربة منزل و طالب و مستثمر .
عبر الكفيف عن اعجابه بهزة رأس ، و أكد لـ ( هشام ) أنه كاتب بالفطرة ، و أن عليه – فقط – أن ينتظر إنفراج الأمر ..
و لكن ( هشام حبيب أبو المحاسن ) أحس بالفعل بأنفاس الموت ..
*
احتضار
فى المترو .. اليوم الثاث ..
هذه المرة كان مع ( هشام ) أوراق و قلم ..
كان الى جواره جهة اليمين يجلس كهل متغضن الملامح ، و بآخر العربة الصبية المشاغبون ، و كان هناك بالقرب منهم تجلس الفتاة المتزلفة ، و أمامه يجلس الضخم الإستعراضى ذاته ، و الى يساره يجلس الموت ..!
أدار وجهه الى الكهل و قال له :
- اننى احتضر .
تأمله الكهل دهشا ، ثم قال مبتسما :
- تبدو بكامل عافيتك ، ماذا عنى أنا اذا ؟!
نظر ( هشام ) الى يساره ثم عاد يقول للكهل :
- و لكننى ارى الموت .
ثم شعر بخوف و برودة تسرى فى أوصاله ، و فى اللحظة التالية طار من مقعده بعنف رهيب وسط دهشة الناس ، و هو يتشبث بالأوراق و القلم بشدة ، بعد أن تسبب المشاغبين فى تشغيل ( بلف ) فرملة الطوارئ ، أثناء سير القطار عبر ذلك المنحنى ، مما أخرجه عن القضبان ، و تسبب فى حادث بشع ..
و فى المستشفى رفض ( هشام ) التخلى عن الأوراق و القلم ، رغم الآلام المريعة التى يكابدها ، كل ما استطاع فهمه من الأطباء ، أنه يعانى من شئ ما اسمه ( احتشاء قلبى ) ، و عندما كان يغيب عنه الأطباء و الممرضات ، كان يخرج الأوراق و يخط كلمات .. رغم الألم المبرح ..
يكتب بينما هو الى جواره ..
الموت ..
*
إكلينيكيا
« واحد و ثلاثين عاما كان فيها مغمورا ، و لسخرية القدر تشاء ظروف موته ، أن تبرز قصته الأخيرة ( سكرات ) ، التى كتبها فى المستشفى قبيل إعلان وفاته إكلينيكيا بساعة و ثلث ، و تنجح تلك القصة العجيبة .. و تلقى بالضوء على مجمل أعماله ، فتنجح فيشتهر .. و لكن متى ؟! بعد أن لقى حتفه »
صفق الحاضرون فى وقار للكاتب الكفيف ، الذى التقى بـ ( هشام ) مصادفة قبل يوم واحد من وفاته ، و أنهى بكلماته تلك الندوة عن أحدث الأعمال الأدبية التى لاقت رواجا ..
و بفضول أمسك أحد الشباب بقصة ( سكرات ) لـ ( هشام حبيب أبو المحاسن ) ، و مرر عيناه على كلماتها ، و اندمج تماما فى مقطع بآخر الرواية ، يقول فيه ( هشام ) :
« الآلام رهيبة ..
كنت دوما أتصور أننى لن أشعر بالسكرات ..
و لكن من هذا الذى يمكنه تخفيف وطأة الموت ؟!
كل خلية فى جسدى الفانى تتمزق بألم يفوق الوصف ، ألم عميق .. كما لو أن بدنى عبارة عن كتلة من الصوف المبتل ، انغرست فيه لفة من الأسلاك الشائكة ، و الآن هناك من ينتزع تلك اللفة بإلحاح ..
إننى أراه ..
أرى الموت ..
خطى مهتز لكنه مفهوم ، تماما كرؤيتى له الآن .. مهتزة لكن يمكننى تمييزها ، إنه صامت و .. و يبدو ككـ .. كبـ .. » ..
*
( تمت )
فكرة / خالد رمضان
بقلم / عصام منصور
1 فبراير 2009