عندما تبنت الطبيبة القاهرية تلك الفتاة الصامتة ، لم تسأل عن تاريخها الذى أدى لاضطرابها النفسى ، فقط جذبها ذلك الهدوء و الجمال ، هذان اللذان يجعلاك تجلس تتأملهما طيلة عمرك براحة و استمتاع .. و ما زاد من سعادة الطبيبة و أملها ، ما أخبرها به زميلها بروفيسور التخاطب المعروف :
- «حالتها إنعزالية واضحة .. بطيئة التقدم و لكنها تتقدم على أى حال ».
و لكى تحسّن الطبيبة ملاكها الذى أسمته ( ميرال ) ، قررت نقلها إلى مدينة أخرى تماماً ..
( الأسكندرية ) ..
كان عمرها يقابل الصف الأول الإعدادى ..
و بعد جهد مضنى ، لم تقبلها سوى مدرسة مسائية منعزلة ، بأطراف منطقة ( الشاطبى ) ..
و هكذا حل أول أيام الدراسة ..
و ياله من يوم يبدأ فى الرابعة مساءً ..
حاولت الطبيبة جاهدة البقاء مع ( ميرال ) ، فى المدرسة التى تتخذ من قصر ذو طابع رومانى مخيف مقراً ، و لكن مدبرة المدرسة منعتها تماماً حتى بعد علمها بحالة ( ميرال ) الخاصة ، بل و قالت :
- « هذا أدعى على عدم إشعارها بأنها مراقبة ، بل يجب عليها الإختلاط لتكتسب الروح الإجتماعية » .
و على مضض ودعت الطبيبة الفتاة ، قائلة بلهجة بثت فيها أكبر قدر من الأمن و الإطمئنان :
- « لا تخافى سآتى فى ميعاد خروجك فى التاسعة بالضبط » .
و الواقع أن الفتاة لم تكن متوترة لهذه الدرجة ، فقد إعتادت حالة الغربة أيام الملجأ .. صحيح أن أمها الجديدة هذه طيبة و حانية إلى حد كبير ، و لكنها لا تشعر أنها ستفتقدها كثيراً إذا ما غابت عنها ، تماما كما يرسب طالب خلوق من ( جامبيا ) أو ( قيرغيزستان ) ، هل يشكل هذا فارقاً بالنسبة إليك ؟!
و بصمت – كعادتها – و دعت ( ميرال ) أمها ، و دلفت مع المدبرة الأنيقة عبر بوابة القصر الحديدية المزخرفة ، ثم إبتعدت الطبيبة بالسيارة ..
و عندما تناهى إلى مسامع ( ميرال ) آخر صوت لمحرك سيارة أمها ، انتبهت و هى تلج القصر ذاته إلى إختفاء المدبرة ..
كانت تسير إلى جوارها صامتة كعهدها ، عندما لم تجدها فجأة .. الأن تبينت أكثر مدى كآبة المدرسة ، مع انتشار الشمعدانات النحاسية بدلاً من المصابيح الكهربية ، و فجأة .. انتفضت ( ميرال ) مع الدوى المباغت ..
صوت سرينة غارة عميق ..
ليس صاخباً ..
بل عميق ..
و ندت منها إلتفاتة إلى ذلك القزم القبيح ، الذى ظهر عند قاعدة جدار الممر ، و كأنما كان هناك منذ البداية ، و ذلك عندما قال بصوت ممسوخ :
- « هذا هو الجرس .. لقد بدأ اليوم الدراسى ، من هنا قاعة الدرس يا حلوة » .
سارت وراء القزم البدين فى تردد ، حتى دخلت القاعة ..
كانت مضاءة بشموع أكثر ، و هناك معلمة لطيفة تضع منظاراً ضخماً ، تقف فى مواجهة إثنى عشر تلميذة ، قالت لهن بإبتسامة متوعدة :
- « رحبوا بزميلتكم الجديدة ( ضاربة الجرس ) » .
نظرت إليها ( ميرال ) للحظة ، و كأنما أرادت أن تصحح لها أن اسمها ليس ( ضاربة الجرس ) بل ( ميرال ) ، ولكنها آثرت الصمت ، وهى تتخذ مقعدها بنهاية الفصل ، رأت الفتاة إلى جوارها ترمقها من أسفل إلى أعلى بريبة ، و سمعتها تهمس لزميلتها :
- « إنها رقم 13 هنا » .
انكمشت ( ميرال ) على نفسها متحاشية النظر اليهن ، و المعلمة اللطيفة تقول :
- « و الآن حصة الفيزياء ، سنطفئ الأضواء و نصدر الأصوات .. و دون أن نتحرك من أماكننا ، سنحدد المسافات عبر الأذن وحدها » .
و أغلقت المعلمة اللطيفة باب قاعة الدرس من الداخل ، ثم أطفأت الشموع بنفخات سريعة مباشرة ، و مع إنطفاء آخر شمعة هبط ظلام ثقيل منتشر ، و جاءهم صوت المعلمة واضحاً ، مع إنعدام الرؤية و تنشط السمع :
- « الآن نبدأ إصدار الأصوات » .
و طبعاً لو استطعت مراوغة ( ليونيل ميسى ) ، فسيكون هذا أكثر يسراً من أن تنطق ( ميرال ) .. فأمامها الكثير قبل أن تتكلم ، على العموم انطلقت أصوات الفتيات ، ما بين همس و أزيز و زوم و أرير و حفيف ..
و هنا انبعث ذلك العواء من وراء ( ميرال ) مباشرة ، مما جعلها تثب مذعورة ، كأنما مسها تيار متردد ..
عواء غير بشرى ..
و متألم ..
و عندما أشعلت المعلمة الشموع ، وجدت الجميع فى أماكنهم فيما عدا ( ميرال ) ، التى أدركت من نظرات الفتيات البريئة ، أنهن لم يسمعن العواء ، بينما قالت لها المعلمة اللطيفة ، بصرامة تتناقض مع ابتسامتها :
- « ألم أأمر بعدم مغادرة المقاعد » .
رفعت ( ميرال ) كفها الشاحب كأنما تطلب برجاء فرصة أخيرة ، أو كأنما تحاول تبرير موقفها ، و لكن المعلمة اللطيفة – التى لم تعد لطيفة – أشارت الى باب القاعة قائلة بخشونة :
- « أنت معاقبة .. الى الخارج » .
و دون أن تفقد ابتسامتها ..!
خرجت ( ميرال ) بإحباط و هى تعرف أن الذنب ليس ذنبها ، و جلست فى ممر قاعات الدرس ، و هى تفكر كيف سيمر باقى يومها الدراسى الأول ..
و آتاها القزم ..
كان فى مستواها هذه المرة و هى جالسة ، و قال لها و هو يعدل قبعته القذرة :
- « أدعى ( جمجوم ) .. و بما أنك مطرودة فدعينى أرشح لك الذهاب إلى درس الموسيقى يا حلوة .. هيا » .
حثها على النهوض ، فاستسلمت له و هو يقودها إلى قاعة الدرس الجديدة ..
كان المعلم ناحلاً ناعساً ، و القاعة تضم ستة مقاعد عليها ستة تلميذات ناعسات بدورهن ، بينما ليس لها مقعد .. فأشار لها المعلم كى تجلس إلى جواره على أريكته الوثيرة ، ففعلت بتردد ، ثم قال بعدمل انغلق باب القاعة :
- « دوووووووووو » .
قالها ببطء و عمق مبالغ فيهما ، و التلميذات تكرر وراءه بنفس اللهجة الناعسة ، و بعضهن قد تدلت رأسها بالفعل حتى لامست ساعديها المسنودين أمامها ..
« رييييييييييييييييي » .
لم يكن ببال ( ميرال ) شئ يدعو للعكس ، شئ يدعو للنشاط و التركيز .. بل لقد تسرب اليها الكثير من النعاس ، خاصة مع الأريكة الوثيرة ، و النبرة العميقة للمعلم النحيل ..
« ميييييييييييييييي » .
و غاصت ( ميرال ) فى قبعة ساحر النوم ، وجدت أرانبه المبهجة ، و انزلقت على جدرانها التى من الحرير ، لتسقط فو لجة من ريش ناعم ، و هى تضحك بلا صوت ، ووسط الريش أبصرت أمها تؤنبها وهى تمط شفتيها بعتاب ، و عيناها تحمل لوم الدنيا ، و ..!
و فتحت ( ميرال ) عيناها بضعف خامل ..
كانت بين النوم و اليقظة ، و جفناها يكابدان المشقة كى يرتفعا ، فينغلقان .. و لكنها كانت ترى عبر هذا التغميض ..
كانت ترى التلميذات الستة نائمات فوق مناضد الدرس ..
و كانت ترى مناضد الدرس فى فناء المدرسة ، الذى هو عبارة عن حديقة خربة ، بلا أزهار ..
كيف انتقلن إلى الفناء ؟ و أين المعلم النحيف ؟!!
و لكن جفناها بديا ثقيلان للغاية على رقتهما ، أكثر من قدرتها على استمرار التحديق و النظر ، و بين كل ارتفاع لجفنيها كانت ترى ذلك الرجل الطويل ..
تراه ..
ثم ينخفض جفنيها بتثاقل ..
تراه بملامحه الجامدة و شحوبه المخيف ..
ثم يسدل ظلام باطن جفنيها ..
و عندما بدأ يأكل الفتيات النائمات بلا وعى ، كان عليها أن تستيقظ ..
أن تحاول ..
و لكنها بدت كالمغيبة ..
و انتهى الرجل الطويل من وجباته الست ، ثم التفت إليها ..
تجمد الدم فى عروقها ، و لكن النوم كان كخدر يقيدها و يمنعها من الرؤية ذاتها بوضوح ..
و عند انفتاح جفنيها التالى ، كان انفتاح فكه هو فى مواجهتها تماماً ، مصدراً عواءً مريعاً ..
هنا انتفضت .. و هبت صارخة :
- « مـامـا » .
و لم تلاحظ أنها نطقتها بعد أن ألجمها الخوف ، و هى ترى ( جمجوم ) يتصارع و يتحارب مع الرجل الطويل المرعب ، صارخاً بها بصوته الدميم :
- « تصرفى يا ( ضاربة الجرس ) » .
فهمت الأن لما يطلقون عليها ذات اللقب ، و هى ترى ذلك الزر الضخم السميك و الصدئ ، إلى جوار مدخل القصر ، فجرت نحوه و ضغطته ، لينطلق صوت الغارة العميق الرهيب ..
معلناً إنتهاء اليوم الدراسى ..
و مع إنطلاقه دقت الساعة التاسعة ، و سمعت صوت محرك سيارة أمها المحبب ، بينما تحول الرجل الطويل إلى جلد بشع ، لم يلبث أن سال و تلاشى فى تربة الحديقة ، مع إختفاء القزم البدين تماماً ..
و انطلقت ( ميرال ) ترتمى فى حضن الطبيبة قائلة بصوت ملائكى ، رقص له قلب الطبيبة ببضعة إختلاجات :
- « ماما .. ماما » .
و ابتعدت سيارة الطبيبة عن المدرسة الغامضة ، و هى تقول لـ ( ميرال ) بسعادة :
- « اطمئنى يا حبيبتى .. لن نعود إلى هنا مرة أخرى ، للأسف انتدبونى فى ( القاهرة ) ، و لكننا سنبحث لك عن مدرسة صباحية هذه المرة » .
و لأول مرة – تقريباً – ابتسمت ( ميرال ) ..
* * *
تمت بحمد الله
إحدى قصص كتاب ( ما حدث فى رأس البر )
بقلم / عصام منصور