قال ( حسام ) فى مرح ، لخطيبته ( مديحة ) :
- لن أملّ هذا المكان ، طيلة ما بقى لى من عمر .
كان الأمر بالنسبة لها ، مشتى جميل فى ( أسوان ) ، بعيداً عن زمهرير العاصمة , فى هذه الفترة من الشتاء ، على أنها لم تكن تعلم ، أن ( حسام ) يهيم حقاً بجده لأمه ، وبدار جده فى ( أسوان ) .. كل ما قاله لها عنه – بإنبهار – أن ذاكرته أقوى من ذاكرتيهما مجتمعتين ، وأنه موضع احترام و حب من كل العائلة ..
ورداً على العبارة السابقة ، قال الجد :
- على الرحب و السعة دائما يا ولدى ، خاصة لدى اصطحابك خطيبتك المهذبة ( مديحة ) .
قالت ( مديحة ) بحياء حقيقى :
- اشكر مجاملتك الرقيقة يا عماه .
قال الجد بإبتسامة وقور :
- لا تقولى مجاملة .. لقد ازدادت الشمس جمالاً ، لوصولك الى حديقة دارى هذه .
قال ( حسام ) بلهجة تصطنع الخطورة :
- آه .. ! يبدو اننى سوف استلهم الموروث الصعيدى ، و أطالب بالثأر منك يا أيها الشيخ .
ضحكوا فى صفاء لدعابته ، و تنهد الجد قائلاً :
- لم يعد الصعيد كسابق عهده يا ولدى .. لقد انتهى الثأر الخارج عن القانون ، أيضا تلاشت الأمية من الصعيد ، و
تجاوزنا خط الفقر .. حتى اننى أخشى من تغير كل سمات
الزمن الجميل .. كالأصدقاء مثلاً .
قالت ( مديحة ) فى شئ من الأسف :
- لقد أصبح هؤلاء بالذات كالعملة النادرة .
التقط ( حسام ) نفساً عميقاً ، من الهواء الطلق ، ثم سأل جده :
- ألا يزورك أحداً من الرفاق القدامى ؟!
مط شفتين كستهما الشعيرات البيضاء الناصعة ، وأجابه :
- لقد صار هذا شحيحا كأمطار ( أسوان ) .
قال ( حسام ) بسرعة وجذل :
- ولكن الذكريات ليست كذلك حتماً .
ابتسم الجد كما لو أنه قرأ أفكاره ، فقالت ( مديحة ) متسائلة :
- ماذا تعنيان ؟!
أجابها الجد بنفس ابتسامته الحنون :
- انه يقصد رغبته لسماع واحدة من ذكرياتى ، كما اعتاد كلما زارنى ، ما رأيك أنت يا بنيتى ؟
قالت بإبتسامة رائعة :
- الواقع انه من فرط إعجاب ( حسام ) ، بذاكرتك الفولاذية و قصصك الجميلة .. فقد جعلنى هذا أتوق لسماعك يا عماه .
اعتدل الجد ، وقال فى هدوء و رزانة :
- فليكن .. وبمناسبة الأصدقاء ، سأقص عليكما الغموض الذى عاشه صديقى ( عامر المـنـفـلـوطى ) ، صاحب أكبر و
أقدم مدبغة فى ( سوهاج ) ، مسقط رأسه .. بدأ الأمر فى الستينيات .. بالتحديد فى ( يونيه ) 1967م .
وانسابت الذكرى ..
وبدا أنها نكسة عسكرية ..
ولم يكن الوجه القِبْلى بأقل من فوران أهل البحرى ، حتى أن العدو أعلن دهشته ، بعد أن تغيرت أهداف هجمته ، من تحطيم وإضعاف للجبهة الداخلية ، إلى رفع للحالة المعنوية ، وإلى تماسك المصريين ، وقرارهم إعادة البناء ..
والأمل ..
ولقد اختلطت كل الإنفعالات و المشاعر ، فى أعماق الشاب - وقتئذ - ( عامر المنفلوطى ) ، وهو يقول لشريكه فى مدبغتهم الصغيرة :
- كم الساعة الآن يا ( ضاحى ) ؟!
أجابه بعينين منتفختين من السهر :
- الثالثة و الثلث صباحاً .. يمكنك الرحيل أنت للنوم يا ( عامر ) ، و سأنتظر أنا حتى ينتهى المرجل من الطلبية الأخيرة .
قال ( عامر ) ، مطلقاً تنهيدة ملتهبة :
- أنام ؟! .. لقد أطار الملاعين النوم من عينى الى الأبد .
ثم انه نظر اليه بشفقة ، قائلاً :
- بل اذهب أنت ، أراهن أنك ستحظى بقسط مركز من
النوم ، بكل هذا الإرهاق المطل من مقلتيك .. هيا .
نهض شريكه باستسلام متثائب ، قائلاً :
- حسناً .. إلى الصباح .
وظل ( عامر ) وحيدا ..
حاول تشغيل الراديو الضخم ، ولكنه تذكر عطبه الذى لا يجعله يعمل بنقاء ، بل بشوشرة مزعجة ..
وبتثاقل نتج عن الإحساس بالهزيمة ، نهض ( عامر ) إلى الـمرجل القديم ، لعله يهدئ من النيران المشتعلة بداخله ..
كان المرجل قد علاه الصدأ ، ولكن هذا لم ينل من كفاءته .. حيث انتهى من تسعين بالمائة – تقريبا – من الغراء المطلوب المطلوب تجهيزه ، فى تلك الطلبية .. فالمعروف أن الغريواتيين(*) يعملون مع الدباغين جنبا الى جنب ، للإستفادة من نفايات الدباغة ..
و بهمة جعلته أنجح أهل المهنة فيما بعد ، صب ( عامر ) الغراء الساخن بحرص فى خزان خاص ، ووضع آخر كمية فى المرجل ، ولكن ..
بينما يفعل لاحظ تلك الـلـفـافـة ، من القماش الأسود العتيق ..
و عندما تفحصها ، علم ما هذا الشئ الصلب بداخلها ..
هذا العَظم ..
(*) : جمع غريواتى و هو مستخدم الغراء .
قالتها ( مديحة ) فى دهشة و استنكار وبعض الإمتعاض كذلك ، ونقل الجد نظره مبتسماً بين هذا الإنفعال ، وما يبدو على ملامح ( حسام ) من استمتاع واضح ، وهى تستطرد :
- كيف هذا ؟! .. عظام ؟!
قال الجد فى هدوء :
- هذا طبيعى .. إن المواد الغضروفية والجلود الحيوانية ، إذا تعرضت لحرارة الماء شديد الغليان ، تحولت لما يعرفه الحرفيون بـ ( الغراء العربى ) .
قالت بدهشة كبيرة :
- حقاً ؟!
ضحك ( حسام ) قائلا :
- الم أقل لك .. لن أسأم حكاياته أبداً .. أكمل يا جدى .
واصل الجد قائلا :
- الواقع أن السؤال كان : مَن وضع هذه العظام فى اللفافة ؟ ولماذا ؟!
وكانت الإجابة هناك ..
فى قرن ماضى ..
قالها ( ضاحى ) مجيبا ( عامر ) الذى انعقد حاجباه ، قائلا فى حيرة :
- ذلك النوبى ؟!
ابتسم ( ضاحى ) صباح اليوم التالى ، وهو يثبت عمامته النحيلة جيداً ، كما تجرى عادة أهل ( سوهاج ) الطيبين ، وراح يرتب بعض الجلود المدبوغة ، متواضعاً مع العمال ، و هو يقول بثقة :
- ليس نوبيا .. بل وليس من بر ( مصر ) كله ، إنه من بلد واجهنا فريقه الرياضى لكرة القدم ، و أحرز الرائع ( حمادة إمام ) ضده هدفا صاروخياً .. هذا البلد .. اعتقد ( غاغا ) أو ( غاما ) .. شئ أشبه بمركز ( مغاغة ) لدينا ! لا أتذكر .. لم يعودوا يتكلموا عن الكرة بعد ما حدث
انتهى من الترتيب ، فلهث و قال :
- سأصنع الشاى المركز .. أتريد البعض ؟
بدا و كأن ( عامر ) لم يسمعه ، وهو يغمغم :
- لقد تغيب ( إدريس ) اليوم دون أن يخطرنى .
ارتفع حاجبا ( ضاحى ) ، ثم مط شفته السفلى مغمغماً :
- لقد رأيته أمس بالفعل يضع اللفافة ، وأنت تقول انها لم تحوى سوى العظام .. كما أن العمال يتغيبون شهرياً ، لعملهم فى غيطان القصب .. قضى الأمر .. والآن سأضع لك شاياً .
ولكن أيضاً لم ينتبه ( عامر ) له ..
فشريكه لم ير العظام الغريبة التى رآها ، ولم يشم رائحة البخور والزيت الثقيلان فى اللفافة القماشية .. صحيح أن ( إدريس ) – كما ينادونه – عامل مجد وهادئ ، صموت وبعيد عن المشاكل ، وأن ( عامر ) نفسه القى العظام فى المرجل ، ومعه الموضوع كله خلف ظهره تلك الليلة .. إلا أنه لم يدر لماذا قادته قدماه ، لزيارة ( إدريس ) فى كوخه
المبنى من الطوب اللبن ، قرب الطريق الزراعى ..
وهناك .. علم من الجيران ، أن أمه قد توفيت صباح أمس ، وأنه قد اتجه بجثمانها ، ليدفـنها فى بلدها الأفـريـقـى ..
فى البداية عندما سأل صبياً عن منزل ( إدريس ) ، أصيب الفتى بالوجل ، وهمس له ببريق من حصد الغنائم :
- لقد توفيت أمه .. ( أمنا الغولة ) !
ولكن والد الصبى أفهمه بصورة أكبر :
- مسكين ظل يحاول الإنفاق على أمه العجوز ، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة صباح أمس ، فباع كوخهما البسيط هذا بثمن بخس ، ولملم حاجياتها ، وغاب قليلا ، ثم عاد مقرراً دفن الجثمان فى بلدهم ، متعللاً بأنه لا يريد ايذاء أحد .. لا أعتقد انه سيرجع ، الأفضل أن تبحث عن عامل غيره ، ما رأيك فى ( دياب ) ولدى ؟ .. انه صغير ولكنه نجيب ، ويمكنه المساعدة .
سأله دون أن يعره اهتمام كبير :
- ولماذا لم يطلب منى المساعدة فى علاج أمه ؟!
هز الرجل كتفيه قائلا :
- ولماذا تفعل ؟!! .. لم يكن أحداً يحبها ، فقد ظلت وحيدة ، ترفض الزواج أو الإندماج .. بل انها ظلت تتحدث بلغتها الغريبة ، حتى آخر أيامها دون أن تحاول فهم العربية .. اسمع .. سأجعل ( دياب ) يترك الذرة ، رغم أهمية الحقل عندى .. أيبدأ من الغد ؟!
قال له ( عامر ) فى شرود :
- ماذا ؟!
ثم انتبه اليه فقال وهو يرحل :
- حسناً .. حسناً يا أبا ( دياب ) .
كان يفكر فى الوقت القليل ، الذى تغيب فيه ( إدريس ) ، عن إكرام الميت .. لقد توفيت أمه غريبة الأطوار صباح أمس ، ولقد رآه ( ضاحى ) يضع لفافة العظام ، مع تعامد قرص الشمس ..
فما أهمية مساهمته بهذه العظام فى هذا الوقت بالذات ؟!
لماذا تركه لجثة أمه ، ليفعل هذا ؟! ..
ما الأهمية القصوى لهذه المساهمة ، أهو جميل رمزى و أخير ، للمدبغة التى ساعدته على لقمة العيش ؟!
و لما لا ..
( إدريس ) كان طيبا كـالـنـسـمة كما يقال .. له روح ملاك ..
ويبدو أن ( عامر ) قد رضى بالتفسير ، و توافق معه لسنوات و سنوات ..
ثمانية أعوام كاملة ..
حتى فتح العلبة ..
علبة غراء قديمة ، استخدم خبرته التى اكتسبها عن أبيه النجار المحترف ، وصب منها على قطع من الأخشاب ، جهزها ليصنع بنفسه احدى نوافذ منزله ، المطلة على الجهة القبلية .. هكذا كثير من الصعايدة .. منذ القدم وحتى اليوم ، يستخدمون خبرات حرفية ، فى حياتهم اليومية ، دون اللجوء إلى الحرفيين و العمال عند كل هفوة ، كما يفعل سكان العاصمة مثلاً ..
فى تلك الفترة من السبعينيات ، كان ( عامر المنفلوطى )
أحسن حالاً بكثير ، بعد شراؤه نصيب شريكه و توسيعه للمدبغة ، حتى صارت أكبر مدابغ ( سوهاج ) ، والتى من شدة تأثره بانتصار 1973م بعد الهزيمة سماها بـ ( مدبغة الأبطال ) ..
و بعد انتهاؤه من النافذة الخشبية ، تطلع اليها بارتياح شامل ، وأغلقها جيداً قائلاً لنفسه :
- رغم الصيف .. إلا إننى أفضل الحرارة على البعوض .
واكتفى بنافذة الجهة البحرية المفتوحة و المغطاة بستار رقيق ، راح يهتز مع النسائم النادرة ، ثم استلقى على فراشه مغمغماً :
- هيه ..! كم اشتقت لك يا عزيزتى .
كان يدفع ضريبة عمله فى ( سوهاج ) ، و زواجه من امرأة من ( القاهرة ) ، حيث تعرف عليها أثناء تجارته مع صديقه ( ضاحى ) ، الذى نزح الى العاصمة منذ خمسة سنوات ، واستطاع الإستقرار بها ، وفتح مصنع ملابس جلدية .. و ها هى زوجته تقضى فترة نقاهتها بعد وضعها لطفلهما الثانى ، عند والدتها .. ولأن جلد الأضاحى فى موسم العيد الكبير أوفر ، فهو يعتبر أن أرباحه تكون سنوية وقتئذ ، فالـ ..!!
ما هذا ..؟! إنه يستسلم تدريجيا لسلطان النوم ؟! هذا واضح لأنه بدأ يخرف ، ولكن ما الداعى فى الأصل لفتح سينما فى ( سوهاج ) ؟! الناس ترى أفلاماً بالفعل فى التلفاز ، ذلك الجهاز الـ ..... ، الـ ... الـ ... و سقط ( عامر ) فى دائرة عميقة .. رحبة .. مريحة ..
و لكنه سقط فى الغراء ..
لجة ذات لون أحمر نارى من الغراء ، فى أعماق بئر سوداء .. حاول الطفو فوقها ، ولكنها كانت تبتلعه ببطء ..
ببطء مخيف ..
و بصعوبة اشرأب بعنقه ، محاولاً إبقاء ذقنه فوق مستوى الغراء ، وأثمرت محاولته ، عندما شعرت أطراف أصابع قدميه ، بشئ يصلح للوقوف و الإرتكاز ، رغم صغره ..
و استخدم ( عامر ) ذراعيه كى يوازن نفسه ، فلا يفلت أمشاط قدميه ذلك البروز المحدود ، ولكن سطح الغراء نفسه راح يرتفع فى بطء ..
و كأنما قد قرر عدم إتاحة الفرصة له ، وباستـماتة راح ( عامر ) يهز رأسه بقوة ، ليبعد المادة اللاصقة عن فمه و أنفه وأنفاسه تتلاحق ، حتى هتف بصوت متحشرج :
- كلا .. هذا كابوس .. كابوس .
و فجأة ..
اختفى البئر ..
وحلت محله صورة غرفته بنافذتيها القبليتان المغلقة ، والبحرية المفتوحة ..
ولكن الغراء ظل كما هو ، و إن استعاد لونه الأبيض الأصلى المائل للصفرة ..
و بهلع لا محدود صاح ( عامر ) :
- رباه .. رباه ! ما هذا ؟!
الآن أيقن أنه استيقظ من حلم مزعج عادى ؛ ليواجه كابوس خارق غير عادى .. فالغراء يملأ الغرفة ، وهو
يقف فوق فراشه ، وحاسة الإحساس و الشم بل و التذوق ، تعيد اليه كل انتباهه ، إنه الآن يرى اللاصق لا ينساب عبر النافذة المفتوحة ، رغم كثافته الغير عادية ، بل يزداد ارتفاعاً ..
كان ينساب من النافذة القبلية ، الى الداخل ..
و معه انسكبت الذكرى الى رأسه ..
ذكرى تلك الليلة المشئومة ..
فبرغم توقف تعليمه عند الإعدادية ؛ لإعتبارها – وقتها – شيئاً مشرفاً ، وليس فى الإمكان أبدع مما كان .. إلا أنه قارن إحدى العظام بتلك اللفافة ، بعظمة فخذه هو ..
و كان التطابق هو النتيجة ..
أى أنها قد تكون رفات موتى ..
عظام آدمية ..
إلا أن شيئاً ما جعله يلقيه فى المرجل .. ولقلة هذه العظام الغريبة ، فلم تستغرق إلا دقائق ، تحولت بعدها الى كمية صغيرة من الغراء .. ضمتها علبة من النوع الصغير .
علبة استعملها بنفسه بعد ثمانِ سنوات ..
و فى بيته ..
لقد سمع فى قريته أساطير عن السـحـر ، وعن أكلة لحوم البشر فى أدغال أفريقـيا ، ولكنه لم يربط هذا أبداً بأم ( إدريس ) ..
الذئبة المنبوذة ..
لأى شئ كانت الرائحة الغريبة فى اللفافة ؟!..
لماذا قرر ( إدريس ) التخلص منها فور وفاة أمه ، ولم ينتظر حتى أن يدفنها .. بل وهرب بجثتها خارج البلد كله؟!
بل لماذا جاءت الأم الى هنا من الأصل ؟!..لقد عرف ( عامر ) لماذا نعتها الصبى بـ ( أمنا الغولة ) ..
عرف هذا فى نفس اللحظة ، التى كان الأطباء يحاولون فيها انقاذه بإخلاص و تفان حقيقيان ..
- ماذا حل بكما ؟! اطمئنا .. الرجل حى يرزق ، ولقد عاش بصحة جيدة كذلك ، وإلا لما علمت القصة التى رواها لى شخصياً .
و أخيرا تكلم ( حسام ) قائلاً بحماس :
- مدهش .. مازلت كعهدى بك يا جدى ، يمكنك إثارتى دائماً .
وتسائلت ( مديحة ) فى اهتمام فضولى :
- وهل وجدوا المادة اللاصقة فى غرفته ؟!
أجابها الجد فى حيرة :
- الواقع أننى لا أجد تفسيرا لهذا .. فقد وُجدت رائحة الغراء ، وفى النافذة الجديدة فقط ، وليس فى الغرفة كلها كالمتوقع ، ولكن العجيب بالفعل هو قطرة .. قطرة غراء صغيرة وجدت فى مكان غير منطقى على الإطلاق .
سأل ( حسام ) بسرعة :
- أين ؟!
أجابه بنفس السرعة :
- فى فمه .
ارتفع حاجبيهما فى دهشة مسترسلة ، لم يوقفها إلا قدوم زوجة الجد ، حاملة فطائر صباحية شهية الرائحة ، هب لها ( حسام ) و اتجه ليساعدها قائلاً :
- إننى أفتقد فطائرك المثيرة يا جدتى .
قالت بطيبة :
- هل عاد لحشو مخك بقصصه العجيبة تلك ؟!
ضحكوا لدعابتها ، و ( مديحة ) تسأل الجد ، وقد بدا أن قصصه قد استهوتها الى حد كبير :
- والنافذة ؟!
سألها الجد وهو يتناول شطيرة :
- أية نافذة ؟!
قالت فى اهتمام :
- النافذة القبلية .
قال ( حسام ) بابتسامة جذلة :
- أكاد أتوقع مصيرها .
قال الجد ببساطة :
- بعد ايمانه بأنها مسحورة أو محرمة ، فقد دفنها مع علبة اللاصق ، فى نقطة بالظهير الصحراوى بمحافظة ( سوهاج ) .. قرر أن تكون نقطة عشوائية تماماً ، لينساها إلى الأبد .
والواقع أن ( مديحة ) كانت تتخيل أنها مجرد رحلة لمشتى جميل ، لكنها لم تتوقع أن تسمع تلك القصة التى لن تنساها أبداً ..
قصة لفافة ..
- لن أملّ هذا المكان ، طيلة ما بقى لى من عمر .
كان الأمر بالنسبة لها ، مشتى جميل فى ( أسوان ) ، بعيداً عن زمهرير العاصمة , فى هذه الفترة من الشتاء ، على أنها لم تكن تعلم ، أن ( حسام ) يهيم حقاً بجده لأمه ، وبدار جده فى ( أسوان ) .. كل ما قاله لها عنه – بإنبهار – أن ذاكرته أقوى من ذاكرتيهما مجتمعتين ، وأنه موضع احترام و حب من كل العائلة ..
ورداً على العبارة السابقة ، قال الجد :
- على الرحب و السعة دائما يا ولدى ، خاصة لدى اصطحابك خطيبتك المهذبة ( مديحة ) .
قالت ( مديحة ) بحياء حقيقى :
- اشكر مجاملتك الرقيقة يا عماه .
قال الجد بإبتسامة وقور :
- لا تقولى مجاملة .. لقد ازدادت الشمس جمالاً ، لوصولك الى حديقة دارى هذه .
قال ( حسام ) بلهجة تصطنع الخطورة :
- آه .. ! يبدو اننى سوف استلهم الموروث الصعيدى ، و أطالب بالثأر منك يا أيها الشيخ .
ضحكوا فى صفاء لدعابته ، و تنهد الجد قائلاً :
- لم يعد الصعيد كسابق عهده يا ولدى .. لقد انتهى الثأر الخارج عن القانون ، أيضا تلاشت الأمية من الصعيد ، و
تجاوزنا خط الفقر .. حتى اننى أخشى من تغير كل سمات
الزمن الجميل .. كالأصدقاء مثلاً .
قالت ( مديحة ) فى شئ من الأسف :
- لقد أصبح هؤلاء بالذات كالعملة النادرة .
التقط ( حسام ) نفساً عميقاً ، من الهواء الطلق ، ثم سأل جده :
- ألا يزورك أحداً من الرفاق القدامى ؟!
مط شفتين كستهما الشعيرات البيضاء الناصعة ، وأجابه :
- لقد صار هذا شحيحا كأمطار ( أسوان ) .
قال ( حسام ) بسرعة وجذل :
- ولكن الذكريات ليست كذلك حتماً .
ابتسم الجد كما لو أنه قرأ أفكاره ، فقالت ( مديحة ) متسائلة :
- ماذا تعنيان ؟!
أجابها الجد بنفس ابتسامته الحنون :
- انه يقصد رغبته لسماع واحدة من ذكرياتى ، كما اعتاد كلما زارنى ، ما رأيك أنت يا بنيتى ؟
قالت بإبتسامة رائعة :
- الواقع انه من فرط إعجاب ( حسام ) ، بذاكرتك الفولاذية و قصصك الجميلة .. فقد جعلنى هذا أتوق لسماعك يا عماه .
اعتدل الجد ، وقال فى هدوء و رزانة :
- فليكن .. وبمناسبة الأصدقاء ، سأقص عليكما الغموض الذى عاشه صديقى ( عامر المـنـفـلـوطى ) ، صاحب أكبر و
أقدم مدبغة فى ( سوهاج ) ، مسقط رأسه .. بدأ الأمر فى الستينيات .. بالتحديد فى ( يونيه ) 1967م .
وانسابت الذكرى ..
* * *
ارتفع دوى القنابل الصهيونية ..وبدا أنها نكسة عسكرية ..
ولم يكن الوجه القِبْلى بأقل من فوران أهل البحرى ، حتى أن العدو أعلن دهشته ، بعد أن تغيرت أهداف هجمته ، من تحطيم وإضعاف للجبهة الداخلية ، إلى رفع للحالة المعنوية ، وإلى تماسك المصريين ، وقرارهم إعادة البناء ..
والأمل ..
ولقد اختلطت كل الإنفعالات و المشاعر ، فى أعماق الشاب - وقتئذ - ( عامر المنفلوطى ) ، وهو يقول لشريكه فى مدبغتهم الصغيرة :
- كم الساعة الآن يا ( ضاحى ) ؟!
أجابه بعينين منتفختين من السهر :
- الثالثة و الثلث صباحاً .. يمكنك الرحيل أنت للنوم يا ( عامر ) ، و سأنتظر أنا حتى ينتهى المرجل من الطلبية الأخيرة .
قال ( عامر ) ، مطلقاً تنهيدة ملتهبة :
- أنام ؟! .. لقد أطار الملاعين النوم من عينى الى الأبد .
ثم انه نظر اليه بشفقة ، قائلاً :
- بل اذهب أنت ، أراهن أنك ستحظى بقسط مركز من
النوم ، بكل هذا الإرهاق المطل من مقلتيك .. هيا .
نهض شريكه باستسلام متثائب ، قائلاً :
- حسناً .. إلى الصباح .
وظل ( عامر ) وحيدا ..
حاول تشغيل الراديو الضخم ، ولكنه تذكر عطبه الذى لا يجعله يعمل بنقاء ، بل بشوشرة مزعجة ..
وبتثاقل نتج عن الإحساس بالهزيمة ، نهض ( عامر ) إلى الـمرجل القديم ، لعله يهدئ من النيران المشتعلة بداخله ..
كان المرجل قد علاه الصدأ ، ولكن هذا لم ينل من كفاءته .. حيث انتهى من تسعين بالمائة – تقريبا – من الغراء المطلوب المطلوب تجهيزه ، فى تلك الطلبية .. فالمعروف أن الغريواتيين(*) يعملون مع الدباغين جنبا الى جنب ، للإستفادة من نفايات الدباغة ..
و بهمة جعلته أنجح أهل المهنة فيما بعد ، صب ( عامر ) الغراء الساخن بحرص فى خزان خاص ، ووضع آخر كمية فى المرجل ، ولكن ..
بينما يفعل لاحظ تلك الـلـفـافـة ، من القماش الأسود العتيق ..
و عندما تفحصها ، علم ما هذا الشئ الصلب بداخلها ..
هذا العَظم ..
* * *
(*) : جمع غريواتى و هو مستخدم الغراء .
(( ماذا ؟! )) ..
قالتها ( مديحة ) فى دهشة و استنكار وبعض الإمتعاض كذلك ، ونقل الجد نظره مبتسماً بين هذا الإنفعال ، وما يبدو على ملامح ( حسام ) من استمتاع واضح ، وهى تستطرد :
- كيف هذا ؟! .. عظام ؟!
قال الجد فى هدوء :
- هذا طبيعى .. إن المواد الغضروفية والجلود الحيوانية ، إذا تعرضت لحرارة الماء شديد الغليان ، تحولت لما يعرفه الحرفيون بـ ( الغراء العربى ) .
قالت بدهشة كبيرة :
- حقاً ؟!
ضحك ( حسام ) قائلا :
- الم أقل لك .. لن أسأم حكاياته أبداً .. أكمل يا جدى .
واصل الجد قائلا :
- الواقع أن السؤال كان : مَن وضع هذه العظام فى اللفافة ؟ ولماذا ؟!
وكانت الإجابة هناك ..
فى قرن ماضى ..
* * *
(( انه ( إدريس ) .. )) ..قالها ( ضاحى ) مجيبا ( عامر ) الذى انعقد حاجباه ، قائلا فى حيرة :
- ذلك النوبى ؟!
ابتسم ( ضاحى ) صباح اليوم التالى ، وهو يثبت عمامته النحيلة جيداً ، كما تجرى عادة أهل ( سوهاج ) الطيبين ، وراح يرتب بعض الجلود المدبوغة ، متواضعاً مع العمال ، و هو يقول بثقة :
- ليس نوبيا .. بل وليس من بر ( مصر ) كله ، إنه من بلد واجهنا فريقه الرياضى لكرة القدم ، و أحرز الرائع ( حمادة إمام ) ضده هدفا صاروخياً .. هذا البلد .. اعتقد ( غاغا ) أو ( غاما ) .. شئ أشبه بمركز ( مغاغة ) لدينا ! لا أتذكر .. لم يعودوا يتكلموا عن الكرة بعد ما حدث
انتهى من الترتيب ، فلهث و قال :
- سأصنع الشاى المركز .. أتريد البعض ؟
بدا و كأن ( عامر ) لم يسمعه ، وهو يغمغم :
- لقد تغيب ( إدريس ) اليوم دون أن يخطرنى .
ارتفع حاجبا ( ضاحى ) ، ثم مط شفته السفلى مغمغماً :
- لقد رأيته أمس بالفعل يضع اللفافة ، وأنت تقول انها لم تحوى سوى العظام .. كما أن العمال يتغيبون شهرياً ، لعملهم فى غيطان القصب .. قضى الأمر .. والآن سأضع لك شاياً .
ولكن أيضاً لم ينتبه ( عامر ) له ..
فشريكه لم ير العظام الغريبة التى رآها ، ولم يشم رائحة البخور والزيت الثقيلان فى اللفافة القماشية .. صحيح أن ( إدريس ) – كما ينادونه – عامل مجد وهادئ ، صموت وبعيد عن المشاكل ، وأن ( عامر ) نفسه القى العظام فى المرجل ، ومعه الموضوع كله خلف ظهره تلك الليلة .. إلا أنه لم يدر لماذا قادته قدماه ، لزيارة ( إدريس ) فى كوخه
المبنى من الطوب اللبن ، قرب الطريق الزراعى ..
وهناك .. علم من الجيران ، أن أمه قد توفيت صباح أمس ، وأنه قد اتجه بجثمانها ، ليدفـنها فى بلدها الأفـريـقـى ..
فى البداية عندما سأل صبياً عن منزل ( إدريس ) ، أصيب الفتى بالوجل ، وهمس له ببريق من حصد الغنائم :
- لقد توفيت أمه .. ( أمنا الغولة ) !
ولكن والد الصبى أفهمه بصورة أكبر :
- مسكين ظل يحاول الإنفاق على أمه العجوز ، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة صباح أمس ، فباع كوخهما البسيط هذا بثمن بخس ، ولملم حاجياتها ، وغاب قليلا ، ثم عاد مقرراً دفن الجثمان فى بلدهم ، متعللاً بأنه لا يريد ايذاء أحد .. لا أعتقد انه سيرجع ، الأفضل أن تبحث عن عامل غيره ، ما رأيك فى ( دياب ) ولدى ؟ .. انه صغير ولكنه نجيب ، ويمكنه المساعدة .
سأله دون أن يعره اهتمام كبير :
- ولماذا لم يطلب منى المساعدة فى علاج أمه ؟!
هز الرجل كتفيه قائلا :
- ولماذا تفعل ؟!! .. لم يكن أحداً يحبها ، فقد ظلت وحيدة ، ترفض الزواج أو الإندماج .. بل انها ظلت تتحدث بلغتها الغريبة ، حتى آخر أيامها دون أن تحاول فهم العربية .. اسمع .. سأجعل ( دياب ) يترك الذرة ، رغم أهمية الحقل عندى .. أيبدأ من الغد ؟!
قال له ( عامر ) فى شرود :
- ماذا ؟!
ثم انتبه اليه فقال وهو يرحل :
- حسناً .. حسناً يا أبا ( دياب ) .
كان يفكر فى الوقت القليل ، الذى تغيب فيه ( إدريس ) ، عن إكرام الميت .. لقد توفيت أمه غريبة الأطوار صباح أمس ، ولقد رآه ( ضاحى ) يضع لفافة العظام ، مع تعامد قرص الشمس ..
فما أهمية مساهمته بهذه العظام فى هذا الوقت بالذات ؟!
لماذا تركه لجثة أمه ، ليفعل هذا ؟! ..
ما الأهمية القصوى لهذه المساهمة ، أهو جميل رمزى و أخير ، للمدبغة التى ساعدته على لقمة العيش ؟!
و لما لا ..
( إدريس ) كان طيبا كـالـنـسـمة كما يقال .. له روح ملاك ..
ويبدو أن ( عامر ) قد رضى بالتفسير ، و توافق معه لسنوات و سنوات ..
ثمانية أعوام كاملة ..
حتى فتح العلبة ..
علبة غراء قديمة ، استخدم خبرته التى اكتسبها عن أبيه النجار المحترف ، وصب منها على قطع من الأخشاب ، جهزها ليصنع بنفسه احدى نوافذ منزله ، المطلة على الجهة القبلية .. هكذا كثير من الصعايدة .. منذ القدم وحتى اليوم ، يستخدمون خبرات حرفية ، فى حياتهم اليومية ، دون اللجوء إلى الحرفيين و العمال عند كل هفوة ، كما يفعل سكان العاصمة مثلاً ..
فى تلك الفترة من السبعينيات ، كان ( عامر المنفلوطى )
أحسن حالاً بكثير ، بعد شراؤه نصيب شريكه و توسيعه للمدبغة ، حتى صارت أكبر مدابغ ( سوهاج ) ، والتى من شدة تأثره بانتصار 1973م بعد الهزيمة سماها بـ ( مدبغة الأبطال ) ..
و بعد انتهاؤه من النافذة الخشبية ، تطلع اليها بارتياح شامل ، وأغلقها جيداً قائلاً لنفسه :
- رغم الصيف .. إلا إننى أفضل الحرارة على البعوض .
واكتفى بنافذة الجهة البحرية المفتوحة و المغطاة بستار رقيق ، راح يهتز مع النسائم النادرة ، ثم استلقى على فراشه مغمغماً :
- هيه ..! كم اشتقت لك يا عزيزتى .
كان يدفع ضريبة عمله فى ( سوهاج ) ، و زواجه من امرأة من ( القاهرة ) ، حيث تعرف عليها أثناء تجارته مع صديقه ( ضاحى ) ، الذى نزح الى العاصمة منذ خمسة سنوات ، واستطاع الإستقرار بها ، وفتح مصنع ملابس جلدية .. و ها هى زوجته تقضى فترة نقاهتها بعد وضعها لطفلهما الثانى ، عند والدتها .. ولأن جلد الأضاحى فى موسم العيد الكبير أوفر ، فهو يعتبر أن أرباحه تكون سنوية وقتئذ ، فالـ ..!!
ما هذا ..؟! إنه يستسلم تدريجيا لسلطان النوم ؟! هذا واضح لأنه بدأ يخرف ، ولكن ما الداعى فى الأصل لفتح سينما فى ( سوهاج ) ؟! الناس ترى أفلاماً بالفعل فى التلفاز ، ذلك الجهاز الـ ..... ، الـ ... الـ ... و سقط ( عامر ) فى دائرة عميقة .. رحبة .. مريحة ..
و لكنه سقط فى الغراء ..
لجة ذات لون أحمر نارى من الغراء ، فى أعماق بئر سوداء .. حاول الطفو فوقها ، ولكنها كانت تبتلعه ببطء ..
ببطء مخيف ..
و بصعوبة اشرأب بعنقه ، محاولاً إبقاء ذقنه فوق مستوى الغراء ، وأثمرت محاولته ، عندما شعرت أطراف أصابع قدميه ، بشئ يصلح للوقوف و الإرتكاز ، رغم صغره ..
و استخدم ( عامر ) ذراعيه كى يوازن نفسه ، فلا يفلت أمشاط قدميه ذلك البروز المحدود ، ولكن سطح الغراء نفسه راح يرتفع فى بطء ..
و كأنما قد قرر عدم إتاحة الفرصة له ، وباستـماتة راح ( عامر ) يهز رأسه بقوة ، ليبعد المادة اللاصقة عن فمه و أنفه وأنفاسه تتلاحق ، حتى هتف بصوت متحشرج :
- كلا .. هذا كابوس .. كابوس .
و فجأة ..
اختفى البئر ..
وحلت محله صورة غرفته بنافذتيها القبليتان المغلقة ، والبحرية المفتوحة ..
ولكن الغراء ظل كما هو ، و إن استعاد لونه الأبيض الأصلى المائل للصفرة ..
و بهلع لا محدود صاح ( عامر ) :
- رباه .. رباه ! ما هذا ؟!
الآن أيقن أنه استيقظ من حلم مزعج عادى ؛ ليواجه كابوس خارق غير عادى .. فالغراء يملأ الغرفة ، وهو
يقف فوق فراشه ، وحاسة الإحساس و الشم بل و التذوق ، تعيد اليه كل انتباهه ، إنه الآن يرى اللاصق لا ينساب عبر النافذة المفتوحة ، رغم كثافته الغير عادية ، بل يزداد ارتفاعاً ..
كان ينساب من النافذة القبلية ، الى الداخل ..
و معه انسكبت الذكرى الى رأسه ..
ذكرى تلك الليلة المشئومة ..
فبرغم توقف تعليمه عند الإعدادية ؛ لإعتبارها – وقتها – شيئاً مشرفاً ، وليس فى الإمكان أبدع مما كان .. إلا أنه قارن إحدى العظام بتلك اللفافة ، بعظمة فخذه هو ..
و كان التطابق هو النتيجة ..
أى أنها قد تكون رفات موتى ..
عظام آدمية ..
إلا أن شيئاً ما جعله يلقيه فى المرجل .. ولقلة هذه العظام الغريبة ، فلم تستغرق إلا دقائق ، تحولت بعدها الى كمية صغيرة من الغراء .. ضمتها علبة من النوع الصغير .
علبة استعملها بنفسه بعد ثمانِ سنوات ..
و فى بيته ..
لقد سمع فى قريته أساطير عن السـحـر ، وعن أكلة لحوم البشر فى أدغال أفريقـيا ، ولكنه لم يربط هذا أبداً بأم ( إدريس ) ..
الذئبة المنبوذة ..
لأى شئ كانت الرائحة الغريبة فى اللفافة ؟!..
لماذا قرر ( إدريس ) التخلص منها فور وفاة أمه ، ولم ينتظر حتى أن يدفنها .. بل وهرب بجثتها خارج البلد كله؟!
بل لماذا جاءت الأم الى هنا من الأصل ؟!..لقد عرف ( عامر ) لماذا نعتها الصبى بـ ( أمنا الغولة ) ..
عرف هذا فى نفس اللحظة ، التى كان الأطباء يحاولون فيها انقاذه بإخلاص و تفان حقيقيان ..
* * *
ازدردت ( مديحة ) لعابها فى وجوم ، وسط صمت مهيب ، قطعته ضحكة الجد الرصينة قائلاً :- ماذا حل بكما ؟! اطمئنا .. الرجل حى يرزق ، ولقد عاش بصحة جيدة كذلك ، وإلا لما علمت القصة التى رواها لى شخصياً .
و أخيرا تكلم ( حسام ) قائلاً بحماس :
- مدهش .. مازلت كعهدى بك يا جدى ، يمكنك إثارتى دائماً .
وتسائلت ( مديحة ) فى اهتمام فضولى :
- وهل وجدوا المادة اللاصقة فى غرفته ؟!
أجابها الجد فى حيرة :
- الواقع أننى لا أجد تفسيرا لهذا .. فقد وُجدت رائحة الغراء ، وفى النافذة الجديدة فقط ، وليس فى الغرفة كلها كالمتوقع ، ولكن العجيب بالفعل هو قطرة .. قطرة غراء صغيرة وجدت فى مكان غير منطقى على الإطلاق .
سأل ( حسام ) بسرعة :
- أين ؟!
أجابه بنفس السرعة :
- فى فمه .
ارتفع حاجبيهما فى دهشة مسترسلة ، لم يوقفها إلا قدوم زوجة الجد ، حاملة فطائر صباحية شهية الرائحة ، هب لها ( حسام ) و اتجه ليساعدها قائلاً :
- إننى أفتقد فطائرك المثيرة يا جدتى .
قالت بطيبة :
- هل عاد لحشو مخك بقصصه العجيبة تلك ؟!
ضحكوا لدعابتها ، و ( مديحة ) تسأل الجد ، وقد بدا أن قصصه قد استهوتها الى حد كبير :
- والنافذة ؟!
سألها الجد وهو يتناول شطيرة :
- أية نافذة ؟!
قالت فى اهتمام :
- النافذة القبلية .
قال ( حسام ) بابتسامة جذلة :
- أكاد أتوقع مصيرها .
قال الجد ببساطة :
- بعد ايمانه بأنها مسحورة أو محرمة ، فقد دفنها مع علبة اللاصق ، فى نقطة بالظهير الصحراوى بمحافظة ( سوهاج ) .. قرر أن تكون نقطة عشوائية تماماً ، لينساها إلى الأبد .
والواقع أن ( مديحة ) كانت تتخيل أنها مجرد رحلة لمشتى جميل ، لكنها لم تتوقع أن تسمع تلك القصة التى لن تنساها أبداً ..
قصة لفافة ..
* * *