رأيتنى أسعى لعبور ذلك الجبل الهائل الأسود ، كنت أتجاهل من قبل وجود جبلاً أسوداً ، ولكن و بينما أقف فى مواجهته مباشرة ، لا يبدو الوضع مريحاً .. قط ..
و بدأت التسلق ..
لست أعرف على وجه اليقين : أنا لا أخشى أبداً المرتفعات ، أم اننى أقنع نفسى بهذا ؟.. و عندما وطأت قدمى تلك الصخرة المهتزة علمت أننى سأسقط ..
هذا مؤكد كخضرة الربيع ..
و بدأت أتعرق ، و راح معصمى ينبض أسفل الساعة ، و كذلك العرقين خلف أذنى ، لا أعلم هل هما طبيعيان أم أننى أنفرد بذلك عن باقى الناس ؟
و سقطت ..
لا أحب الظهور بمظهر الجبان أمام نفسى ، ولكننى ظللت أعتقد أن سقوطى أنا بالذات - خلافاً لباقى البشر - يجعلنى أهوى بسرعة مضاعفة ، ويزيد من وزنى كثيراً ..
و ارتطمت بالأرض الصخرية ، و ..
عجباً !!
غير اتساخ ثيابى لم أصب بسوء ، هذا لأننى ببساطة سقطت عن ارتفاع متر واحد فقط !!
نظرت لنفسى بسخرية ، وقلت :
- ياللسخافة .
و عاودت التسلق بجرأة أكبر ، و جسارة طبيعية ، وبعد نهار كامل وصلت للقمة ..
ثم تجاوزت الجبل كله فى اليوم التالى كله ..
و على الناحية الأخرى ، وطأت قدمى تربة طبيعية ، اختلفت أخيراً عن تربة الجبل السوداء ، وكان على عبور تلك الغابة ..
كانت الغابة تثير القشعريرة فى البدن ، هناك أماكن تجعلك تشعر أنك لم تبرح بيتك بعد ، بيوت ثانية دافئة ، وهناك أماكن أخرى ، عدوانية باردة ، هذه الغابة بأشجارها رمادية الجذوع ، و أوراقها السوداء ، لو كانت رجلا لما أوليت له ظهرى أبداً ، كانت الفتيات تجلس فوق أغصانها ، ولم يبدو لى هذا غير طبيعى ، ربما لمعاناتى من مشكلة خطيرة فى نظرى حاليا ..
فلم يكن بإستطاعتى الرؤية أبعد من عشرة أمتار ، بسبب ضباب كثيف بدا غامضاً ..
بدا غير صديق ..
ضعف الرؤية أمر مزعج للغاية لى ، لكننى ضغطت أعصابى لمواجهة تلك الحشرات ..
حشرات بشعة .. بشعة للغاية ، مزيج بين صراصير ضخمة بحجم القطط ، وعناكب مشعرة الأرجل ، تصدر أصوات فئران ، أثارت امتعاضى .. وتراجعت بسرعة عندما هاجمنى صف عريض منظم برز من قلب الضباب ، وبمجرد مشيى فوق تربة الجبل توقفت كل الحشرات ..
بل تجمدت ..
و بثقة قفزت أتجاوزها ، ونظرت فلم أجدها تتحرك ، فتقدمت من أقرب الفتيات فوق الأغصان ، واللاتى بدون متشابهات ، بتلك الغلالات الأقرب للبس الإغريقيات ، وسألتها فى ارهاق :
- هل تسمحى بمحادثتى يا آنسة ؟
أومأت بالإيجاب دون أن تتفوه بكلمة ، فسألتها :
- من أنتن ؟ و الى أين ينبغى أن أذهب ؟
قالت بصوت بارد ، رغم رقته :
- عليك أن تولينى ظهرك لأننا خجلون .
لم أشعر بالدهشة قدر شعورى بمزيج غريب من الإحباط و الحذر ، لم يمنعنى من الدوران متظاهراً بالأدب ، وأنا أسمعها تقول من ورائى :
- كلما بقيت هكذا ، كلما سمعت أكثر .. ينبغى أن تذهب للقاء الموت .
قلت فى سرى : حياتنا كلنا ما هى إلا رحلة للقاؤه ، و هى تتابع من وراء ظهرى :
- حتى الشجعان يخافون .. و أنت شجاع .. و ستخاف لأنك ذكى ، الذكاء كما أنه نعمة فهو نقمة ، و نقمته الخوف .
لحظة .. لماذا لم تعد حجة الخجل مقنعة الآن ؟
- أن تعرف أكثر فمعنى هذا ، متاعب و مخاوف أكثر ، أن تعرف أننى أعرف أنك ستأخذ حذرك منى ، فهذا يوترك .. يجعل العرقين خلف أذنيك يوشكان على الإنفجار .
آه .. يبدو أننى ذكى بالفعل كما قالت ، لأننى رصدت نقطة أو اثنتان غير مطمئنتان فى حديثها ، وينبغى أن أستدير .. ينبغى أن أرى عيناها ، شئ شديد الإزعاج ألا ترى من يصدر اليك القلق ، ألا ترى هذا معى ؟
- أما من نحن فنحن الغابة نفسها ، نفس الغابة التى لو كانت رجلاً لما أوليت له ظهرك أبداً .
هذا يكفى .. تلك الغامضة تقرأ أفكارى ، سألتفت ..
سألتفت ..
استدرت و أنا أسمعها تنسف برودها ، هاتفة بذعر أثار ذعرى :
- لكن انتظر .
ولكنى كنت استدرت ..
و تسمرت ..
كانت كل الفتيات على الأرض الآن ، وكلهن شكلن نصف دائرة ورائى ، ووجوههن أصابها اختلال و تحور مرعبان ، جعلا أفواههن تتسع كفوهات موت سوداء ، وكل هذه الأفواه تقترب منى ببطء مخيف ..
مخيف ..
بطء واثق ..
و مخيف ..
و صرخت ..
صـرخـتـى صـدرت مرعبة لذاتى ، وهى تكاد تمزق طبلة أذنى ..
وصرخن لصرختى ، وبدت صرخاتهن ذات نواح مرعب ، ويكأننى قد فتحت على نفسى أبواب الجحيم ..
ثم استيقظت ..
هكذا بنفس سرعة السرد ، استيقظت ليحرق ضوءاً أبيضاً مبهراً عيناى ، شاعراً بيدين تعيدنى للإسترخاء ، و صاحبهما يقول :
- لا لا عُد للإستلقاء خاصة بعد تلك العملية .
لم أقاومه وحاولت الإعتياد على الضوء بسرعة ، متسائلا فى نفسى : كم مضى على نومى ؟ وأين أنا ؟ ثم سألته و أنا أراه بصعوبة بمعطفه الأبيض :
- من أنت ؟
قال بإبتسامة مريحة و لهجة ودودة :
- أنا طبيبك .
شعرت أننى عار تماماً أسفل تلك الملاءة ، و رأت عيناى قاعة طبية شديدة الإتساع ، كل شئ فيها يكسوه الأبيض الشاهق ، حتى الطبيب كان شاحباً كالنورس ، وأنا أسأله فى اجهاد :
- سمعتك تقول عملية ؟
قال بنفس ابتسامته وبلهجة مهذبة للغاية :
- نعم يا سيدى لقد أزلنا العرقين خلف أذنيك ، وعروق معصمك !
نظرت اليه بذهول لا يمكن وصفه ، ثم دفعته بعيداً عن الفراش مستفظعاً ، قلت بصوت مختنق :
- أريد محامىّ الخاص .
أخرج يديه من خلفه فيهما لوح كتابة و قلم ، وبدون أن يفقد بسمته ، دون علامة صح أمام أول سطر فى اللوح ، قائلاً :
- لك هذا .
ارتفعت طرقات هادئة على باب قريب ، لم يعرها كلانا اهتمام ، و أنا أصيح به وقد شعرت أننى عارياً خارجياً و داخلياً :
- و أريد ملابسى فوراً .
دون علامة صح جديدة ، و كأن رغباتى مفضوحة أمامه على اللوح ، و ذلك ببشاشة عجيبة استفزتنى بشدة ، و جعلتنى أجذب منه لوح الكتابة قائلاً بغضب :
- أرنى هذا .
تشبث باللوح بغتة ، قائلا بشراسة مفرطة ، وقد ارتسمت لوحة مدهشة للوحشية على سحنته :
- كلا .. كلا يا سيدى !
و لكنى حاربت هذا الشرير حتى استخلصت منه اللوح ، وجحظت عيناى بإستغراب ما بعده إستغراب ..
رغباتى مكتوبة !
1- أريد محامىّ الخاص .
2- أريد ملابسى فوراً .
3- أرنى هذا !
4- أقرأ هذا !
ووضعت يدى فى سرعة كى لا أقرأ الباقى ..
هذا جنون !
جنون مطبق .. فهل جننت ؟ هل يمكننى أن أعرف اذا كنت قد جننت حقاً .. لا .. لا أعتقد .. إذاً فأنا بخير ..
حسناً .. بعض التفكير المنطقى : لو لم أجن يمكننى معرفة رغبتى الجديدة من الطبيب ، ثم لفظها لو لم تكن خطيرة ، و لكن ..!
اللعنة ..!!
انها رغباتى بالفعل فقد قرأت بنفسى الرغبة الرابعة التى لم أتفوهها بعد ، و لأننى لا أجد أفكاراً أخرى ، فقد انقضضت عليه قائلاً بضيق :
- أقرأ هذا .
نظر الى عُريى بإشمئزاز ، و أجابنى مكرهاً على ما يبدو :
- مكتوب : اقرأ هذا .
لكزته فى قسوة قائلاً :
- السطر الخامس .
نظر الىّ بذعر للحظة ، و شفتيه تتحركان على الرغم منه بصوت مختنق :
- : النجاة فى آخر اللوح ، أخشى أن نموت مختنقين .
لم يكد يلفظ آخر حرف ، حتى بدأ يختنق ..
و أنا معه ..
سقطنا أرضاً بلا حول و لا قوة ، و راح شيئاً ما غير طبيعى ينمو أسفل جلد حنجرتينا ، ويضغط ببطء شعرت معه بإنعدام الهواء ، حاولت الإستنجاد بأى أحد فى هذا العالم ، ولكن جهدى ذهب سدى ، فالرغبة تحققت و لو قرأها أى انسان ، وسمعت بوضوح حشرجة الطبيب الأخيرة ، بعد أن وصل ذلك التورم الى مداه ..
اننى أموت ..
و بالصدفة سقطت عينى على اللوح ، كانت النجاة فى آخره كما قرأ الطبيب ، و كان على القراءة بأى ثمن ، عدلته بصعوبة شاعراً بنهايتى تدنو ، و بمعجزة ما قرأتها ..
5- هذه الرغبة قبل الأخيرة ، كنت فى طفولتى أخشى الظلام ، و أخشى ما يحويه الظلام .
و بشكل ما .. اختفت القاعة ..
و اختفى الورم البغيض ..
ووجدت أننى وسط مساحة لامحدودة ، مضاءة بنيران بعيدة ، انطفأت فور تخمينى بكنهها ، ليهبط الظلام الحالك اللعين ..
ياالهى ..
ياالهى ..!!
إذا ماكانت هذه الرغبة قبل الأخيرة ، فكيف سأتمكن من قراءة الرغبة الأخيرة ، وسط هذا الظلام ؟!!
الرغبة الأخيرة و بها النجاة ..
انها النهاية بحق هذه المرة ..
خاصة اذا تحققت مخاوف الطفولة كاملة ، فهذا هو الظلام ..
يتبقى مايحويه الظلام ..
لم أكد انتهى من الخاطرة الأخيرة ، حتى سمعت العواء ..
لم يكن نفس العواء المعروف ..
ثم تناهى الى مسامعى الزئير ..
الذى لم يكن زئيراً ..
ثم توالت الأصوات المرعبة ، التى تجمد الدم .. كل الدم ..
ووسط الظلمة الحالكة بدت أزواج الأعين ، أزواج حمراء و بنية و صفراء ، راحت تتجمع حولى مطلقة زمجرات عالية ..
ولم أدرى متى بدأت مذبحتهم ..
كل ما فهمته أنهم كانوا يحاولون اختطافى كاملاً دون نهش ، متواجهين فيما بينهم للمنافسة على افتراسى ، و كانت المواجهة رهيبة ..
رهيبة ..
المرعب فيها أننى لم أمس بسوء ، اذا ما استثنينا الأذى النفسى الكامل ، إذ راح هؤلاء المسوخ يتذابحون من حولى فى حلقة كاملة ، من الغريب أن تدرك أن كل هذا من أجلك ، و تظل محتفظا بعقلك أو حتى وعيك ..
ثم أنقض على ..
كان أضخم الوحوش و أذكاها فيما يبدو إذ تجاوز دائرة النحر والقتال ، و ركز كل قوته على الفريسة ، كان ثقله وحده كافياً بشدة لقتلى ، و لكن جسدى احتمله بشكل ما ، و أطلق هو خواراً ظافراً مريعاً ، ثم انحنى فوقى بشدة ..
ضربت أنفاسه الكريهة وجهى ، و رأيت عن قرب كبير عيناه الزجاجيتان المفزعتان ، و الأكثر بريقاً حتى أننى قد رأيت أنفى لأول مرة ، منذ أصبحت فى عالم الظلام هذا ، فقلت شاعراً بمخالبه تغوص فى لحمى العارى :
- هيا أيها الوغد إنه الأمر .
صرخ فى وجهى مباشرة ، وكانت صرخته من القوة حتى أننى فقدت سمعى ، ولم أعد اسمع الوحوش المسعورة ، و فتح هو فمه الأسود عن آخره ، و ..
< الأكثر بريقاً > ..
تذكرت شيئاً فرفعت لوح الكتابة أمام عيناه الكبيرتان ، قائلاً فى مقت :
- أو انهيه أنا .
واتسعت عينا الوحش عن آخرها ، وكأنما فهم ما أفعله ، و أنا أقرأ على بصيص ضوء عينا المخلوق الرغبة الأخيرة ، صارخاً بشفاه مرتجفة دون أن أسمع ما أقول :
- (6- كم أتمنى الجلوس بصحبة طفلتى فى ضوء الشمس) .
لم أعرف لماذا لم يختف وجهه القبيح ، و لكنه أطلق صياحاً عاتياً بدا من انتفاض رأسه ، و كأنما يعلن أن الوقت قد حان لإنهاء هذا العبث ، ثم هوى بأنيابه على عنقى ..
كنت جالساً مع طفلتى فى ضوء الشمس ..
نعم ..
أتنسم الهواء العطرى ..
فى سلام ..
و بدأت التسلق ..
لست أعرف على وجه اليقين : أنا لا أخشى أبداً المرتفعات ، أم اننى أقنع نفسى بهذا ؟.. و عندما وطأت قدمى تلك الصخرة المهتزة علمت أننى سأسقط ..
هذا مؤكد كخضرة الربيع ..
و بدأت أتعرق ، و راح معصمى ينبض أسفل الساعة ، و كذلك العرقين خلف أذنى ، لا أعلم هل هما طبيعيان أم أننى أنفرد بذلك عن باقى الناس ؟
و سقطت ..
لا أحب الظهور بمظهر الجبان أمام نفسى ، ولكننى ظللت أعتقد أن سقوطى أنا بالذات - خلافاً لباقى البشر - يجعلنى أهوى بسرعة مضاعفة ، ويزيد من وزنى كثيراً ..
و ارتطمت بالأرض الصخرية ، و ..
عجباً !!
غير اتساخ ثيابى لم أصب بسوء ، هذا لأننى ببساطة سقطت عن ارتفاع متر واحد فقط !!
نظرت لنفسى بسخرية ، وقلت :
- ياللسخافة .
و عاودت التسلق بجرأة أكبر ، و جسارة طبيعية ، وبعد نهار كامل وصلت للقمة ..
ثم تجاوزت الجبل كله فى اليوم التالى كله ..
و على الناحية الأخرى ، وطأت قدمى تربة طبيعية ، اختلفت أخيراً عن تربة الجبل السوداء ، وكان على عبور تلك الغابة ..
كانت الغابة تثير القشعريرة فى البدن ، هناك أماكن تجعلك تشعر أنك لم تبرح بيتك بعد ، بيوت ثانية دافئة ، وهناك أماكن أخرى ، عدوانية باردة ، هذه الغابة بأشجارها رمادية الجذوع ، و أوراقها السوداء ، لو كانت رجلا لما أوليت له ظهرى أبداً ، كانت الفتيات تجلس فوق أغصانها ، ولم يبدو لى هذا غير طبيعى ، ربما لمعاناتى من مشكلة خطيرة فى نظرى حاليا ..
فلم يكن بإستطاعتى الرؤية أبعد من عشرة أمتار ، بسبب ضباب كثيف بدا غامضاً ..
بدا غير صديق ..
ضعف الرؤية أمر مزعج للغاية لى ، لكننى ضغطت أعصابى لمواجهة تلك الحشرات ..
حشرات بشعة .. بشعة للغاية ، مزيج بين صراصير ضخمة بحجم القطط ، وعناكب مشعرة الأرجل ، تصدر أصوات فئران ، أثارت امتعاضى .. وتراجعت بسرعة عندما هاجمنى صف عريض منظم برز من قلب الضباب ، وبمجرد مشيى فوق تربة الجبل توقفت كل الحشرات ..
بل تجمدت ..
و بثقة قفزت أتجاوزها ، ونظرت فلم أجدها تتحرك ، فتقدمت من أقرب الفتيات فوق الأغصان ، واللاتى بدون متشابهات ، بتلك الغلالات الأقرب للبس الإغريقيات ، وسألتها فى ارهاق :
- هل تسمحى بمحادثتى يا آنسة ؟
أومأت بالإيجاب دون أن تتفوه بكلمة ، فسألتها :
- من أنتن ؟ و الى أين ينبغى أن أذهب ؟
قالت بصوت بارد ، رغم رقته :
- عليك أن تولينى ظهرك لأننا خجلون .
لم أشعر بالدهشة قدر شعورى بمزيج غريب من الإحباط و الحذر ، لم يمنعنى من الدوران متظاهراً بالأدب ، وأنا أسمعها تقول من ورائى :
- كلما بقيت هكذا ، كلما سمعت أكثر .. ينبغى أن تذهب للقاء الموت .
قلت فى سرى : حياتنا كلنا ما هى إلا رحلة للقاؤه ، و هى تتابع من وراء ظهرى :
- حتى الشجعان يخافون .. و أنت شجاع .. و ستخاف لأنك ذكى ، الذكاء كما أنه نعمة فهو نقمة ، و نقمته الخوف .
لحظة .. لماذا لم تعد حجة الخجل مقنعة الآن ؟
- أن تعرف أكثر فمعنى هذا ، متاعب و مخاوف أكثر ، أن تعرف أننى أعرف أنك ستأخذ حذرك منى ، فهذا يوترك .. يجعل العرقين خلف أذنيك يوشكان على الإنفجار .
آه .. يبدو أننى ذكى بالفعل كما قالت ، لأننى رصدت نقطة أو اثنتان غير مطمئنتان فى حديثها ، وينبغى أن أستدير .. ينبغى أن أرى عيناها ، شئ شديد الإزعاج ألا ترى من يصدر اليك القلق ، ألا ترى هذا معى ؟
- أما من نحن فنحن الغابة نفسها ، نفس الغابة التى لو كانت رجلاً لما أوليت له ظهرك أبداً .
هذا يكفى .. تلك الغامضة تقرأ أفكارى ، سألتفت ..
سألتفت ..
استدرت و أنا أسمعها تنسف برودها ، هاتفة بذعر أثار ذعرى :
- لكن انتظر .
ولكنى كنت استدرت ..
و تسمرت ..
كانت كل الفتيات على الأرض الآن ، وكلهن شكلن نصف دائرة ورائى ، ووجوههن أصابها اختلال و تحور مرعبان ، جعلا أفواههن تتسع كفوهات موت سوداء ، وكل هذه الأفواه تقترب منى ببطء مخيف ..
مخيف ..
بطء واثق ..
و مخيف ..
و صرخت ..
صـرخـتـى صـدرت مرعبة لذاتى ، وهى تكاد تمزق طبلة أذنى ..
وصرخن لصرختى ، وبدت صرخاتهن ذات نواح مرعب ، ويكأننى قد فتحت على نفسى أبواب الجحيم ..
ثم استيقظت ..
هكذا بنفس سرعة السرد ، استيقظت ليحرق ضوءاً أبيضاً مبهراً عيناى ، شاعراً بيدين تعيدنى للإسترخاء ، و صاحبهما يقول :
- لا لا عُد للإستلقاء خاصة بعد تلك العملية .
لم أقاومه وحاولت الإعتياد على الضوء بسرعة ، متسائلا فى نفسى : كم مضى على نومى ؟ وأين أنا ؟ ثم سألته و أنا أراه بصعوبة بمعطفه الأبيض :
- من أنت ؟
قال بإبتسامة مريحة و لهجة ودودة :
- أنا طبيبك .
شعرت أننى عار تماماً أسفل تلك الملاءة ، و رأت عيناى قاعة طبية شديدة الإتساع ، كل شئ فيها يكسوه الأبيض الشاهق ، حتى الطبيب كان شاحباً كالنورس ، وأنا أسأله فى اجهاد :
- سمعتك تقول عملية ؟
قال بنفس ابتسامته وبلهجة مهذبة للغاية :
- نعم يا سيدى لقد أزلنا العرقين خلف أذنيك ، وعروق معصمك !
نظرت اليه بذهول لا يمكن وصفه ، ثم دفعته بعيداً عن الفراش مستفظعاً ، قلت بصوت مختنق :
- أريد محامىّ الخاص .
أخرج يديه من خلفه فيهما لوح كتابة و قلم ، وبدون أن يفقد بسمته ، دون علامة صح أمام أول سطر فى اللوح ، قائلاً :
- لك هذا .
ارتفعت طرقات هادئة على باب قريب ، لم يعرها كلانا اهتمام ، و أنا أصيح به وقد شعرت أننى عارياً خارجياً و داخلياً :
- و أريد ملابسى فوراً .
دون علامة صح جديدة ، و كأن رغباتى مفضوحة أمامه على اللوح ، و ذلك ببشاشة عجيبة استفزتنى بشدة ، و جعلتنى أجذب منه لوح الكتابة قائلاً بغضب :
- أرنى هذا .
تشبث باللوح بغتة ، قائلا بشراسة مفرطة ، وقد ارتسمت لوحة مدهشة للوحشية على سحنته :
- كلا .. كلا يا سيدى !
و لكنى حاربت هذا الشرير حتى استخلصت منه اللوح ، وجحظت عيناى بإستغراب ما بعده إستغراب ..
رغباتى مكتوبة !
1- أريد محامىّ الخاص .
2- أريد ملابسى فوراً .
3- أرنى هذا !
4- أقرأ هذا !
ووضعت يدى فى سرعة كى لا أقرأ الباقى ..
هذا جنون !
جنون مطبق .. فهل جننت ؟ هل يمكننى أن أعرف اذا كنت قد جننت حقاً .. لا .. لا أعتقد .. إذاً فأنا بخير ..
حسناً .. بعض التفكير المنطقى : لو لم أجن يمكننى معرفة رغبتى الجديدة من الطبيب ، ثم لفظها لو لم تكن خطيرة ، و لكن ..!
اللعنة ..!!
انها رغباتى بالفعل فقد قرأت بنفسى الرغبة الرابعة التى لم أتفوهها بعد ، و لأننى لا أجد أفكاراً أخرى ، فقد انقضضت عليه قائلاً بضيق :
- أقرأ هذا .
نظر الى عُريى بإشمئزاز ، و أجابنى مكرهاً على ما يبدو :
- مكتوب : اقرأ هذا .
لكزته فى قسوة قائلاً :
- السطر الخامس .
نظر الىّ بذعر للحظة ، و شفتيه تتحركان على الرغم منه بصوت مختنق :
- : النجاة فى آخر اللوح ، أخشى أن نموت مختنقين .
لم يكد يلفظ آخر حرف ، حتى بدأ يختنق ..
و أنا معه ..
سقطنا أرضاً بلا حول و لا قوة ، و راح شيئاً ما غير طبيعى ينمو أسفل جلد حنجرتينا ، ويضغط ببطء شعرت معه بإنعدام الهواء ، حاولت الإستنجاد بأى أحد فى هذا العالم ، ولكن جهدى ذهب سدى ، فالرغبة تحققت و لو قرأها أى انسان ، وسمعت بوضوح حشرجة الطبيب الأخيرة ، بعد أن وصل ذلك التورم الى مداه ..
اننى أموت ..
و بالصدفة سقطت عينى على اللوح ، كانت النجاة فى آخره كما قرأ الطبيب ، و كان على القراءة بأى ثمن ، عدلته بصعوبة شاعراً بنهايتى تدنو ، و بمعجزة ما قرأتها ..
5- هذه الرغبة قبل الأخيرة ، كنت فى طفولتى أخشى الظلام ، و أخشى ما يحويه الظلام .
و بشكل ما .. اختفت القاعة ..
و اختفى الورم البغيض ..
ووجدت أننى وسط مساحة لامحدودة ، مضاءة بنيران بعيدة ، انطفأت فور تخمينى بكنهها ، ليهبط الظلام الحالك اللعين ..
ياالهى ..
ياالهى ..!!
إذا ماكانت هذه الرغبة قبل الأخيرة ، فكيف سأتمكن من قراءة الرغبة الأخيرة ، وسط هذا الظلام ؟!!
الرغبة الأخيرة و بها النجاة ..
انها النهاية بحق هذه المرة ..
خاصة اذا تحققت مخاوف الطفولة كاملة ، فهذا هو الظلام ..
يتبقى مايحويه الظلام ..
لم أكد انتهى من الخاطرة الأخيرة ، حتى سمعت العواء ..
لم يكن نفس العواء المعروف ..
ثم تناهى الى مسامعى الزئير ..
الذى لم يكن زئيراً ..
ثم توالت الأصوات المرعبة ، التى تجمد الدم .. كل الدم ..
ووسط الظلمة الحالكة بدت أزواج الأعين ، أزواج حمراء و بنية و صفراء ، راحت تتجمع حولى مطلقة زمجرات عالية ..
ولم أدرى متى بدأت مذبحتهم ..
كل ما فهمته أنهم كانوا يحاولون اختطافى كاملاً دون نهش ، متواجهين فيما بينهم للمنافسة على افتراسى ، و كانت المواجهة رهيبة ..
رهيبة ..
المرعب فيها أننى لم أمس بسوء ، اذا ما استثنينا الأذى النفسى الكامل ، إذ راح هؤلاء المسوخ يتذابحون من حولى فى حلقة كاملة ، من الغريب أن تدرك أن كل هذا من أجلك ، و تظل محتفظا بعقلك أو حتى وعيك ..
ثم أنقض على ..
كان أضخم الوحوش و أذكاها فيما يبدو إذ تجاوز دائرة النحر والقتال ، و ركز كل قوته على الفريسة ، كان ثقله وحده كافياً بشدة لقتلى ، و لكن جسدى احتمله بشكل ما ، و أطلق هو خواراً ظافراً مريعاً ، ثم انحنى فوقى بشدة ..
ضربت أنفاسه الكريهة وجهى ، و رأيت عن قرب كبير عيناه الزجاجيتان المفزعتان ، و الأكثر بريقاً حتى أننى قد رأيت أنفى لأول مرة ، منذ أصبحت فى عالم الظلام هذا ، فقلت شاعراً بمخالبه تغوص فى لحمى العارى :
- هيا أيها الوغد إنه الأمر .
صرخ فى وجهى مباشرة ، وكانت صرخته من القوة حتى أننى فقدت سمعى ، ولم أعد اسمع الوحوش المسعورة ، و فتح هو فمه الأسود عن آخره ، و ..
< الأكثر بريقاً > ..
تذكرت شيئاً فرفعت لوح الكتابة أمام عيناه الكبيرتان ، قائلاً فى مقت :
- أو انهيه أنا .
واتسعت عينا الوحش عن آخرها ، وكأنما فهم ما أفعله ، و أنا أقرأ على بصيص ضوء عينا المخلوق الرغبة الأخيرة ، صارخاً بشفاه مرتجفة دون أن أسمع ما أقول :
- (6- كم أتمنى الجلوس بصحبة طفلتى فى ضوء الشمس) .
لم أعرف لماذا لم يختف وجهه القبيح ، و لكنه أطلق صياحاً عاتياً بدا من انتفاض رأسه ، و كأنما يعلن أن الوقت قد حان لإنهاء هذا العبث ، ثم هوى بأنيابه على عنقى ..
* * *
كنت جالساً مع طفلتى فى ضوء الشمس ..
نعم ..
أتنسم الهواء العطرى ..
فى سلام ..
* * *