٢٤ ديسمبر ٢٠١١

رجل فوق الألم- الفصل الأول : نهاية ماضى ®









رجل فوق الألم


























لكل منا اسم ..


لكل منا كيان و ماضى ..


نحن كذلك نشعر و نحس ..


لكن هل فكرنا ماذا لو انتزع منا كل هذا ؟!


هو هكذا ..
















1- نهاية ماضى


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




















الحاسة                     The Sense


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





التطور الجراحى لا ينتهى إلا عندما ينتهى





*    *    *





إزالة الضفيرة العصبية ، التى تنقل الشعور بالآلام إلى المخ ، عملية ممكنة و يمكن تجربتها ، لكن هل نعلم رد الفعل العكسى لها ؟!





*    *    *






مستشفى ( القاهرة ) المركزى ، قسم النقاهة .. 10:25 ليلاً .. غرة أبريل ، الربع الثانى من القرن الـ 21 ..





« وجدتك أيها اللعين » ..!





انبعثت العبارة بهمس حاد فى غرفة النقاهة ، و رغم خفوتها ، إلا أنها أيقظته ..





ففتح عيناه دفعة ، و كأنه يصحو على دوى قنابل ، ثم أدار رأسه يساراً جهة الصوت ..





شاهد صورة مهتزة كأنه مازال فى حلم ، لشخص مقنع ينتزع مسدساً طويل الماسورة من حزامه ، و يطلق منه رصاصة واحدة ، نحو منتصف الجبهة ..





تماماً ..





*    *    *





ضجت المستشفى برجال الشرطة و رجال الطب الجنائى ، و ذلك عندما استعاد وعيه كاملاً هذه المرة ، و ذلك لبحث غموض جريمة القتل التى تمت بجواره مباشرة ..





*    *    *





قالت له ممرضته ، و هى تدفعه بفراشه المتحرك الى غرفة أخرى أكثر هدوءاً :


- « حمداً لله أن ذلك القاتل لم يصبك بأذى ، رغم أنك و القتيل وصلتما المستشفى معاً » .





*    *    *





كان محقق الشرطة هادئاً حقاً ، و لكن ذلك لم يخفف من دواره ، و المحقق يعدل ربطة عنقه و يسأله :


- اخبرنى طبيبك بعدم صفاؤك الكامل بعد ؛ لذا سألقى عليك سؤالاً واحداً ، و أرجو أن تحاول التركيز لإجابته .





ألقى نظرة على معاونه ، فوجده مستعداً للكتابة .. ثم ضغط مخارج الحروف :


- اخبرنى بالضبط معلوماتك عن القتيل ، و ما رأيته أثناء الجريمة .





قال ببطء :


- كل ما أعرفه أننى دخلت هنا معه ، و لقد قتله رجل مقنّع ، شاهدته بصعوبة وسط غيبوبتى .. هذا كل شئ يا سيدى .





*    *    *





حققت الشرطة معه مجدداً ..





و لكنه لم يرتبط بالأمر بشكل مؤثر ، خاصة مع فقده لأوراق هويته ..





و فقده كذلك لشئ أكبر ..





ذاكرته ..





كل ذاكرته ..





و لكنه سأل تلك الممرضة ، بعد الحادث بيومين :


- كنت قد أخبرتنى أننى وصلت الى المستشفى مع القتيل ؟





قالت هادئة مبتسمة :


- نعم كان ذلك منذ شهر بالتحديد ، كنت أنت مصاباً فى رأسك و ظهرك غائب عن الوعى ، فى حين كان هو متيقظاً رغم إصابته الفادحة .. و لقد كاد بأعوامه الخمسين أن يفارق عالمنا ، لولا العناية الإلهية و سرعتنا ، و رغم سنه إلا أنه كان يبدو أكثر قوة من ( فان ديزل ) !





سألها فى حيرة غلبت اهتمامه الشديد :


- ألم يقل أى شئ عنى ؟ أى معلومات ؟!





شعرت بإضطرابه و تأثره بفقده للذاكرة ، فقالت مشفقة :


- للأسف .. بقى السيد ( غريب الحسينى ) - كما عرفنا من جواز سفره - هذا الشهر المنصرم دون أن ينطق أو يكتب كلمة واحدة ، لإصابته بشلل رباعى شمل العنق و اللسان ، بسبب الحادث العنيف و المجهول الذى تعرضتما له .





قاست حرارته و نبضه و هى تواصل ، مختلسة النظر لوسامته :


- و لكنى أذكر أننى كنت أول من استقبلكما ، حينها تمتم قائلاً « اخبروا رفيقى إذا ما مت ، ألا يستخدم قدرته الخاصة إلا ضد الأوغاد ! » .. و أؤكد لك أنه لولا فضولى لإكتشاف حقيقة عبارته ، لما احتفظ ذهنى المشغول دوماً بهذا القول الغامض .. فهل تملك أية قدرات غير عادية أيها الوسيم ؟!





انعقد حاجباه محاولاً إحابتها ، ضاغطاً على عقله المنهك ، لكنه لم يجد جواب شاف ، فهز رأسه بنظرة حائرة بدت كأنها ستلازمه طويلاً ، فإبتسمت فى حنان و إشفاق متزايدين ، قائلة :


- « لا عليك .. لا تجهد عقلك الخارج من تحقيقات الشرطة ، يالها من مهنة مهنة الشرطة هذه ، فبرغم ما يعتقده البعض بمضايقتهم للناس العاديون ، إلا أننى أرى أنها أسمى مهنة .. فلتسترخ الآن » .





*    *    *





15 أبريل .. الخامسة مساءً ..





قال له طبيبه ، و هما جالسن على مائدة صغيرة :


- الآن و قد أنهيت العلاج الطبيعى التأهيلى ، أخبرك أن الحساب قد دفعه الراحل السيد ( غريب الحسينى ) ، و ترك لك وصلاً بتسلم باقى الحساب ، حوالى خمسة آلاف جنيه .. و أخبرك كذلك أن إصابة ظهرك المحترق ، كانت ستظل تلهبك بالألم ما بقيت حياً .. فاضطررنا معها لنزع توصيلة الأعصاب التى تنقل الشعور بالألم لمخك ، و الموجودة تحت الفقرة العنقية الخامسة .





سأله بوجوم شارد :


- هل تعنى .. أنكم أفقدتمونى الشعور بالآلام كلية ؟





مط الطبيب شفتيه فى أسف ، و قال متحاشياً النظر الى عينيه :


- لولا هذا لعانيت طيلة عمرك ، إنها النار يا رجل .. معذرة كان هذا الحل الوحيد كى لا يقتلك الألم .





سأله مغمض العينين :


- و لماذا تعتذر ؟!





قال بلهجة تتشرب بالإحراج و الإشفاق :


- إذا إفترضنا أنك ستتكيف مع هذه الخاصية ، التى قد يتمناها البعض .. فإنك لن تضمن السيطرة على رد الفعل العكسى لها ، مستحيل علمياً .





نظر اليه مباشرة بتساؤل قلق ، فقال الطبيب بتوتر حمل مسحة حزن :


- لا أعلم هل ستفهم هذا أم لا ، و لكن مع تلاشى معطيات الشعور بالألم عن العقل ، سيحتاج عقلك الباطنى و بشدة الى بدائل نفسية قوية ، تعوض فقد هذا الشعور السلبى الهام ، مما سيحفز هذا جهازك العصبى بسرعة ، و يدفع درجة إفراز ( الأدرينالين ) الى حافة الجنون .. بإختصار سيحولك رد الفعل الى وحش .. كتلة من العنف .. و ذلك وقت ذروة إنفعالك .





كان فاقداً للذاكرة ..





و لكنه أدرك و بعمق ما يعنيه هذا اللفظ ..





( وحش ) ..





لم يدر ما الذى اعتراه ، لكن تبادر الى ذهنه فور سماع الكلمة ، مشهداً فظيعاً ..





مشهد بشع لفناء مكتظ بالجثث البشرية ، حتى أن كثرتها كونت ما يشبه التل ..





تل من الموتى ..





و كان يعتليه رجلاً ضخماً ، يكسو الضباب ملامحه ، و لكن أطرافه مخضبة بالدماء القانية ..





و تلاشى المشهد فى سرعة كما ولد بسرعة ، تاركاً فى ذهنه يقين أن هذا ليس خيالاً ..





بل ذكرى ..





ذكرى مخيفة من ماضيه المجهول ..





« ستبقى معنا » ..





كان هذا الطبيب :


- « قد تقتل نفسك فى المرات الأولى لتعرضك لهذه الردة ، كما أنه ليس لك جهة معينة أو قرار خارجى ككل فاقدى الذاكرة ، لذا فأسلم حل أن تبقى تحت رعايتنا ، فإحتمال أن تستعيدها هنا أسرع ، لأنه فقدان ذاكرة إرتجاعى نتج عن صدمة الرأس » ..





شعر الطبيب أنه يحادث رجلاً أصم ، و هو يقول لذلك الشارد مشفقاً ، مهماً بالرحيل :


- سنحتجزك .





( سنسجنك ) ..





( سنعتقلك ) ..





وثبت الكلمتان على الفور الى عقله ، الذى يحاول جر الماضى جراً بلا جدوى ..





لم تقفز صور جديدة ، لكن توازى المعنى فى ذهنه مع العناء المضنى ، و العذاب ، و الوحدة الرهيبة ..





فرمق الطبيب المبتعد فى بطء ، بنظرة ملآى بالمشاعر المتضاربة و المختلطة ..





بالضياع ..





بالغربة ..





برودة المشاعر ..





ذوبان الذات ..





النهاية ..





*     *     *


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق