٢٩ ديسمبر ٢٠٠٩

مرسى

خرج من قطار المترو لا يلوى على شئ ، كان يهم بالعودة الى مرسمه لإستكمال شيئاً ما سريالى ، شئ يعبر عن حالة البحث اللانهائية عن نصف روحه ، حاملاً مغلف ضخم ابتاعه للتو ، يحوى لوحة جديدة ..

لوحة خالية ..

كانت الحياة تجرى من حوله صاخبة ، تشبه فيضان من الألوان و الأصوات و البشر ، فيضان يريد أن ينفصل عنه بلا أية جدوى ، حتى الأفكار فى ذهنه كانت تشبه إعصاراً ..

لذا فقد كانت المفاجأة عميقة و كاملة عندما قابلها بغتة ..

عندما اصطدمت به و هى تلج الرصيف ، خارجة من ذلك الممر الجانبى المؤدى الى الخروج ..

عندا أسقطت المغلف ..

حينئذ رآها ..
رآها بقلبه و ليس بشبكية عيناه ..
و تزلزل عرش قلبه ..

و بدا مشهدها و هى تنحنى لإلتقاط المغلف ، كعرض زمنى بطئ ، كأن الزمن مرّ فى يوم كامل خلال هذه الثوان ، يوم أشرقت فيه شمس قسماتها ، بضياء خلاب غير عادى ..

كانت رشيقة ترتدى على غير عادة الزمن كله ، فستاناً سكرياً ضيق الخصر ينسدل فضفاضاً ، و يكشف فى نهايته عن صندلاً أبيضاً رقيقاً ، بينما عقصت شعرها الكستنائى ، بشريط زهرى بسيط ..

أما وجهها فكان كثمرة ناضجة من ثمار الجنة ، حمل حيوية مطلقة ، و تورد حانى ، و حبور وراثى ..

كانت تمد يدها البالغة الرقة اليه بالمغلف ، و هو يمد اليها كيانه و عقله و قلبه ، يناديها بصمت : أى نصف روحى ، و قعتِ على من حيث لا أدرى ، أمن السماء أتيتِ أم من عالم غير أرضى ؟! سألها ما اسمها و لكنها لم تسمعه ، لأن حرفاً من سؤاله لم يتجاوز فمه ..

سألها لم لا تجيبيننى ، لم تعذبيننى ؟!! و لكن صوته لم يغادر أعماقه ، الفكرة نضجت و تجهزت ، و لكن شفتيه لم تتحركان ..

قالت له بالإنجليزية :
- سورى Sorry .

و لكن الإنجليزية بدت له كأنها لغة ميتة ، حيث لم يفهم سوى أنها قالت شيئاً جميلاً بصوتاً أجمل ، و خيل اليه أن صوتها انحفر فى تلافيف مخه ، بكل لغات الأرض ..

صوتها بدا منسجماً مع تلك النغمات الساحرة التى لفته ، نعم .. تلاشى الصخب و توحدت الألوان فى لون شعرها ، و لون فستانها ، و قل البشر أو اختفوا لم يدر حقاً أبسببها ، أم لأن الركاب غادروا المحطة و لم يبق سواهما ، بل و لم يعد يعنيه حتى أن ينهار العالم الخارجى كله ، و لا يتبقى سوى محطة المترو هذه ، بل أن عقله الباطنى تمنى حدوث شئ أشبه بهذا ، المهم أن يظل متطلعاً الى عيناها الناعمتان الخجولتان ..

و شعرت هى بالإرتباك و ظنت أنها أتلفت شيئاً قابلاً للكسر ، و أحس هو بإنفعالها ، و انزعج لمجرد أن يتسبب لها بإضطراب ، بل لقد و جد الوقت ليلوم نفسه بقسوة على ما تسبب لها فيه ، و التقط منها المغلف بيد حزينة ..

يد تشعر أن لحظة الفراق السريعة جداً قد اقتربت ..

قد حانت ..

ينبغى أن يفعل شيئاً ..

سينتقم من نفسه بعنف اذا لم يفعل شيئاً !!

ضرورى جداً أن يقول شيئاً ، ينتزع نفسه قسراً من وجومه ، و جموده ، ليقول لها ما سوف يجرؤ على قوله !

و قالها ..

قبل أن تواصل لوم نفسها على ما تظن أنها تسببت فيه ، نطقها ..

قال كالمسحور .. كالحالم :

- مرسى .

سمعتها (Mercy ) بحكم تعليمها الأجنبى ، و صوته الخافت ، فقالت بإرتياح ما :

- العفو .

و هنا انتفض و عادت اليه أصوات المحطة و الوانها ، و قال لها مصححاً :

- كلا أنا اسمى ( مرسى ) .

و لكنها تجاوزته فى صمت و حياء ، فأدرك أن ما جال بخاطره لم يكن مناسباً ، و لكنه عرف ما سيستكمله فى مرسمه ..

و تأكد فى تصميم أن وجهها سيكون درة مرسمه ..

مرسم ( مرسى ) ..