تجمعت دمعة كبيرة فى عيناها و هى تودعه ..
لم يكن يمقتها لكن قرار انفصالهما المؤقت كان حتمياً ، لإعادة تصفية الأجواء التى ألمت بهما مؤخراً ، بعد شعوره بالفتور المفاجئ نحوها ، لم تعارضه و هى تبتعد فى طريقها الى تجمع الحافلات المتجهة للمدينة المجاورة ، و تمسح دموعها بمنديل تارة ، و تتجاهلها فتسيل صانعة أخاديد على وجنتها الوردية تارة أخرى ..
كان بحاجة لها ، لذا كان عليه الإبتعاد عنها ! الإبتعاد سبيله للقيا ، الإبتعاد سيعيد الحنان لقلبه تجاهها ، هذا أوقعه فى حيرة ما نوعاً ، هل الإقتراب أصبح داعياً للكراهية .. للبرود ؟!
إيقاع العصر نفسه يجعله يقوم بعشرة أشياء فى ذات الوقت ، فكيف يتمكن من تقييم حالته العاطفية ، و إيجاد الوقت الكافى لإصلاح قلبه أثناء إستمرار العلاقة ؟! إذن فهو سيحصل على إجازة حب إجبارية ، سيتمكن بعدها من ممارسة حرية حبه بالطريقة التى تجعله فى نشاط عاطفى .. نعم فللحب حرية تجعله حباً حقيقياً و ليس إجبارياً ، و نعم للعاطفة نشاط ينبغى أن يكون دائم ، و ليس خامدا مثير للملل و ربما البغض ..
و فجأة شعر بحيرة و هو يبتعد بدوره فى إتجاه معاكس لها ، ليهبط الى ما تحت الأرض ، حيث قطارات الضواحى النفقية : أيعود إليها مفجراً شرارة حب دافق ، أم يواصل فكرته كى لا يبدو متراجعاً أمامها ؟!
أيعود بسرعة الى حافلة حبيبته ليغلفها بمشاعره ، أم يواصل طريقه الى حيث القطار النفقى ثم يتخذ مقعده المفضل الى جوار النافذة الأخيرة من العربة ، حيث يتسنى له مراقبة البشر ؟
يرجع الى حافلتها ، يضع تذكرة القطار فى جيبه ، ثم يهرول داعياً أن تكون الحافلة ما تزال بالإنتظار ، و يخطئ عدة مرات أثناء بحثه عن الحافلة المنشودة ، حتى يلحق بها قبل غلق الأبواب ..
يتجه اليها و هى غافلة عنه ..
يشعر أنها أفضل لحظات حياته الرومانسية بحق ، و هو يبتسم حينما يجدها تنتهى من تجفيف دموع فاضحة ، أثارت تعاطف بعض الركاب ، و يغمغم فى أذنها فجأة :
- يالصغيرتى الحبيبة ! أمازلت تكفكفين تلك اللآلئ ؟
تلتفت بسعادة اليه بعدما أصاب صوته شغاف قلبها الرقيق ، تحيطه من الوضع جلوساً بذراعيها و الحافلة تتحرك بهما ، هاتفة بفرحة طفلة بريئة :
- كنت أعرف أنك ستعود ، لن تصدق لكنى كنت أعرف .. قلبى لن يفارق قلبك لحظة .
يتجاهل إلتفات الفضوليين إثر صيحتها ، و يكاد يخبرها أنه مصر على موقفه ، لكنه لم يفضل أن تبتعد حزينة هكذا كأنه وداع نهائى ، لكن عاطفتها الجياشة تحرجه و تلجم لسانه عن التلفظ بها ، فيسقط فى حيرة جديدة .. لكنه يصل لتسوية بصيغة هادئة النبرة و الأسلوب ، بحيث يتركها لتواصل طريقها ، و يعتذر لسائق الحافلة راجياً إياه أن يتوقف ، ثم يستقل سيارة أجرة ، و يبتعد أمام عيناها بالسيارة ..
أم يدخل التذكرة فى الماكينة ..
يدخلها قاطعاً على نفسه طريق العودة ، و تمرر بكرات ماكينة المرور التذكرة اليه من الطرف الآخر ، فيلتقطها و يدخل القطار ..
و يجلس على مقعده المفضل الى جوار النافذة الأخيرة من العربة ، حيث يتسنى له مراقبة البشر ، و ينزلق القطار السريع معلناً إبتعاد قلبه فى إتجاه مضاد عن توءمه ..
فيقرر كسر حدة حيرته ، و فعل شئ إيجابى سينتقل بعلاقتهما نوعاً الى أفق أرحب ..
يلتقط هاتفه المحمول ، و يضغط رقم واحد لفترة ، ليفعل الإتصال بها .. تظهر صورتها لثوان على الشاشة البلازمية ، قبل أن ترد مع أول جرس :
- كنت .. !
يقاطعها ببسمة حب :
- ستقولين أنك كنت تعرفين أننى سأفعلها ! أليس كذلك ؟
تقول بقلب مختلج و صوت متهدج اختلط بنفير القطار :
- لقد التقطت من طرف لسانى ما كنت سأقوله تواً ، يا حبيبى هل .. ؟!!
يعيد المقاطعة :
- هل تقبليننى زوجاً ؟
فتصرخ فرحاً ..
أيعود بسرعة الى حافلة حبيبته ، أم يواصل طريقه ؟!
لماذا يحس أنه تجاوز حيرته و طبق الخيارين معاً ؟!!
* * *
تركته و قلبى يدمى بدموع ستسقط طويلاً على روحى ..
كان حبيبى ليس كأى حبيب ، كان يرقص طرباً إذا ما أصبت هدفاً فى حياتى ، لكنى أقسم أنه أكثر أهل الأرض تحفظاً ، فلا يبدو على ملامحه أدنى انفعال مبالغ فيه .. كان الحزن و الألم المخيف يمزقانه إذا ما فشلت ، لكنه يشجعنى دون أن يظهر ذلك الألم متمتعاً بقدرة فذة على الإنفصال ..
كان حبيبى ليس كأى حبيب ..
لذا كان على أن أكون حبيبة مثالية .. لهذا أطعته ..
و ابتعدت ..
بلا مزيد من الإعتراض حتى لا أضايقه ، و فى الحافلة استطعت تمالك نفسى بصعوبة ، حتى لا تخالنى نفسى منافقة أمام نفسى ، فلم أبكى هكذا على وفاة أمى نفسها عندما كنت فى السادسة من عمرى ، عندما همس بغتة أحدهم فى أذنى اليسرى ، أثناء مراقبتى الطريق المندى عبر النافذة الكبيرة الى يمينى ..
« يالصغيرتى الحبيبة ! أمازلت تكفكفين تلك اللآلئ ؟ »
كانت المفاجأة حقيقية و جلية ، و السعادة طاغية ترقص لها أشد القلوب قساوة ، لم أدرى إلا و أنا أحيط كيانه بذراعى ، و أصيح :
- كنت أعرف أنك ستعود ، لن تصدق لكنى كنت أعرف .. قلبى لن يفارق قلبك لحظة .
نسيت العالم و غدا هو عالمى ، و صفاء عيناه سمائى ، و صوته الرخيم تغريد طيور قلبى ، قال و أنا ألتهم وسامته بعيناى إلتهاماً :
- سيطردنا السائق الكهل هكذا ، أم انسحب قبل إحراجى ؟
ساورنى القلق و أنا أسأله بلهجة مرتجفة مهتزة :
- ماذا تقصد ؟
مسح على شعرى قائلاً فى هدوء كبير :
- لم أستطيع وداعك و أنت حزينة فرأيت أن أشيع و لو بسمة صغيرة فى وجه الملاك هذا ، أو لم أفعل ؟
قلت بصوت مختنق و قد أدركت لعبته الرقيقة :
- بلى .. لكن بقائك سيشيع بسمة العمر كله ، أنت تريد تركى مرتين أليس كذلك ؟
قال بنفس أسلوبه الهادئ المقنع :
- و لما لا تسمينها أريد توديعك مرتين ؟ أنت تعرفين أن غيابنا قد يصل لشهر ، فترة مهمتى الجديدة ضمن فريق الآثار الذى أعمل به ، و التى طلبتها طواعية ؛ لنحصل على إجازة حب كما اتفقنا .. حبيبة قلبى .. لا أريدك أن تنبسى بكلمة أخرى ، إنفعالك سيجعل العبارات تخونك فقط سأنسحب الآن .. الى اللقاء .
ثم قبل يدى و ابتعد أمام عيناى الملتاعتين الحزينتين ، اللتان استنفذتا دموعهما بالفعل ، فلوحت له و هو يستقل سيارة أجرة .. و قطرات السماء تبدأ فى الهطول بدلاً من دموعى ، و بينما أراه من وراء نافذة الحافلة و نافذة سيارة الأجرة يشرئب بعنقه ، محاولاً متابعتى حتى آخر لحظة ، دق الهاتف معلناً أن حبيبى يتصل !
رددت بسرعة فى دهشة و هو يختفى فى الظلام مبتعداً :
- كنت .. !
أردت أن أعبر عن تعجبى الشديد لأنه لم يكن يمسك بهاتفه وقتما اتصل ، رغم ذلك فقد اتصل فكيف بالله عليه ؟! لكنه فاجأنى :
- ستقولين أنك كنت تعرفين أننى سأفعلها ! أليس كذلك ؟
لم أدرى لماذا أيدته ، ربما لأن جزء منى كان كذلك قائلة :
- لقد التقطت من طرف لسانى ما كنت سأقوله تواً ، يا حبيبى هل .. ؟!!
أردت بشدة سؤاله :
- هل أنت فى القطار لأننى أسمع صوت نفيره ، كيف هذا رغم تواريك عن ناظرى منذ ثلاث ثوان ؟ هل هذه خدعة ما أم أننى أهذى ؟
لكنه قاطعنى أفضل مقاطعة فى حياتى :
- هل تقبليننى زوجاً ؟!
فصرخت بسعادة و غبطة ليس لهما مثيل :
- بالتأكيد .
فيما بعد ، و بعد أن أعتقد ركاب الحافلة أننى مخبولة ، أو حمقاء على أفضل تقدير ، و بعد أن رافقته فى رحلته الى تلك المحمية الأثرية بعد إجراءات زواجٍ قياسية ، و بعد أن استعدت ذكرى تلك الليلة المطيرة ، بشئ من الحيادية و التدقيق ، و أيضاً بعد أن شرحت له ما أردت سؤاله عن تواجده فى لحظتين و مكانين مختلفين ، أخبرنى حائراً عما يدعى بـ ( حالات الظهور المتكرر ) ، عن ظهور نفس الشخص فى مكانين مختلفين .. و حتى أصبحت جدة ، ظللت أروى بسعادة تلك الظاهرة ، و السامعين إما بين مكذب أو ضاحك فى رضا ! لكنى لم أترك الزمن يؤثر فى تذكرى للحدث المدهش تلك الليلة ، و ظهور حبيبى الوحيد فى ( التاكسى ) و القطار فى نفس الوقت .. من أجلى ..
ظهور أقوى من عاملى الزمان و المكان ..
هذا لأنه ظهور الحب ..
* * *
بقلم / عصام منصور
( تمت بحمد الله )
15-5-2009
ضمن قصص العدد الثانى من سلسلة ( روايات 2 ) ( العملية المزدوجة )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق