١١ يناير ٢٠١٠

الثـــلاثـــاء

عندما استيقظ ( غريب ) صباح ذلك ( الثلاثاء ) ، مستعداً بمنتهى الهمة و النشاط لعمله اليومى ، كمراجع حسابات فى تلك المؤسسة العملاقة ، و بعدما ارتدى كامل ثيابه ، تذكر بغتة أن ذلك ( الثلاثاء ) بالذات إجازة رسمية فى البلاد كلها ، بمناسبة ذكرى السادس من ( أكتوبر ) المجيدة ..

و ارتج عليه ..

كان يعشق العمل كالهواء و الماء ..

ليس لأن الزمن أصبح منظومة متكاملة ، لا مكان فيها للمتقاعسين أو المتواكلين .. منظومة كل فرد فيها وحدة أو ترس يتكامل مع الباقين .. ليس لهذا فحسب ..

و لكن لأن ( غريب ) - الذى ما يزال عزباً رغم تجاوزه للـ 35 من عمره - لا يعرف عن نفسه سوى أنه مراجع حسابات نشط ، عقله مبرمج بلغة الأرقام ، و حياته كلها لا تعرف العبث ، أو معنى أوقات الفراغ ..

لذا ..

و بكامل هندامه ..

جلس و ملامحه تحمل ما يشبه الصدمة ..

أو الهلع !

ماذا سيفعل الآن إذاً ؟!

كيف سيقضى يوماً كاملاً فى حياته بدون عمل ؟!

كيف ؟!

كان يعمل حتى فى أيام الإجازات ، بتصريح خاص من رئيسه ، و لكن لأن هذه الإجازة ليست تلك الأسبوعية التقليدية ، فلم يلحق بمواعيد شئون الموظفين لتسجيل تصريح العمل ، أو أنه لسبب ما عجيب ، أصيب بسهو عن هذا الأمر بالأمس ، حتى جاء ( الثلاثاء ) ..

هذا ( الثلاثاء ) ..

لهذا هو الآن مضطرب ..

جالساً بكامل ثيابه فى ارتباك عجيب للغاية ..

إنه نمط نادر كبعض الآسيويين ، الذين يتخذون العمل كنوع من الصلاة للإله .. نوع يقدس العمل و يعتبره بوصلته لو كان سفينة ، و جناحيه لو كان طائرة ، و مقوده لو تحول الى سيارة ..

و عاد يردد السؤال : ماذا الآن ؟!

الطبيعى أن يخرج من المنزل ..

لذا فقد خرج ..

غادر منزله البسيط النظيف المرتب ..

حسناً هو الآن يستقل ( المترو ) النفقى ، فى تمام الثامنة و الربع كعادة كل يوم ..

تغيرت الوجوه ، و قل الإزدحام ، و لكنه نفس قطار ذلك الخط ، بنفس التوقيت ..

و كالمعتاد هبط فى محطة ( البحوث ) ، توجه الى الشركة ، و توقف برهبة أمام بوابتها .. المغلقة فى وجهه ..

هذه حقيقة كثلوج ( سان بطرسبرج ) ، كصحراء ( الأتكاما ) فى ( تشيلى ) و التى تلقب بـ ( سطح القمر ) ، حقيقة كرقص أطفال جزيرة ( بالى ) فوق الجمر !

و فى بؤس نظر الى ساعته ..

واحدة من أفضل و أقوى ساعات اليد فى العالم ، من حيث الدقة و المتانة و مقاومة الماء و الأتربة ، تحدد الوقت عبر وسيلتين مدمجتين ، أشعة الشمس و الأقمار الإصطناعية ، لم يتخلى عنها منذ ابتاعها منذ أربعة عشر عاماً و نيف ، و لا يشعر بالإتزان و الإحساس بوضوح الهدف ، إلا و هى تحيط بمعصمه ..

و كانت عقاربها الفسفورية تشير الى تمام التاسعة ..

كالعادة ..

و لكن العمل نفسه متوقف ..

مصاب بالشلل ..

هل إذن يختل ميزان حياته ، الذى كان مضرب للأمثال ، على مستوى أصدقاء و زملاء العمل ، و حتى بين عائلته فى ( الاسكندرية ) ؟!

أم أن كل هذا الإلتزام طوال عمره ، و كل هذه الدقة التى اشتهر بها منذ أيام الجامعة - و لم يخرقها مرة - قد أصبحا مكشوفين الآن ؟!

التزام لا فائدة منه ..

و دقة جائت اللحظة لتنكسر ..

لحظة تجمدت عندها حياته كلها ..

تجمدت بحق ..!

فبينما ينظر الى ميناء ساعته الأثيرة ، و عند توقيت التاسعة و دقيقة واحدة بالضبط ، إذا بعقرب الثوانى النشط يتوقف ..

هكذا ببساطة أذهلته ..

فاتسعت حدقتا ( غريب ) حتى شملتا محجريه ..

هذا مستحيل ..!

هكذا قالها فى ذهول ..

و سأله أحد المارة الذى سمع الكلمة ، و اعتقد أنه يسأله عن شئ ما ، عما يقول ..

فقال له ( غريب ) أن هذا مستحيل ، لقد توقفت ساعته ..

و هو يقصد حياته ..

فقال له عابر الطريق ، بإستهتار ضاحك :

- ( كل حاجة وقفت ، هى يعنى جت على ساعتك ؟!! )

و اتسعت عيناه أكثر و أكثر ..

كل شئ توقف ؟!!

ماذا يعنى ذلك الرجل ؟!

كلا ..!

كلا .. كلا .. كلا ..!

هو يختلف عن المستهترين ..

هو يختلف عن المتكاسلين ..

هو - بالذات - يختلف عن المتقاعسين ..

و إذا ما كان لحياته كلها معنى ، و إذا كان لكل إنضباطه معنى ؛ فليجد الآن ما يهديه ..

و يجمع نفسه المشتتة ..

الآن ..

الآن و ليس فى أية لحظة أخرى ..

و رفع رأسه ينظر حوله بعصبية ..

لا يوجد ما يسترعى الإنتباه فى الميدان كله ، كل شئ هادئ و عادى بالنسبة ليوم إجازة ، بإستثناء ..!

بإستثناء تلك المرأة ..

كانت غجرية الطابع ، من الطراز الذى يقرأ الطالع إياه ، عبر ما يسمى بـ ( الودع ) .. ربما كانت متناقضة مع الميدان بحداثته و نظافته ، و ربما لأنها كانت تبتسم ..

إبتسامة غامضة تبدو من أسفل الوشاح ، الذى استرخى على نصف و جهها العلوى ، خيل اليه أنها تقصده هو بالتحديد ..

و بلهفة عبر الميدان كله بإتجاهها .. ثم توقف أمامها متردداً ..

لم يخاطب فى عمره أى عراف ، و لم يلتق بأية قارئة طالع ، لأنه ببساطة لا يعتقد فى ذلك الأمر ، و يرى أن الحياة مرتبة بدقة كبيرة ، و لا مجال فيها للأمور الغريبة ..

(( أنت هنا لأنك هنا )) !

قالتها له و هى لا ترى منه سوى حذاؤه اللامع ، و حاول هو تبين عينيها ، قائلا فى عصبية :

- سيدتى .. هل .. هل أنت عرّافة أو شئ من هذا القبيل ؟

صمتت هنيهة بنفس الإبتسامة الخفيفة الغامضة للغاية ، ثم قالت بصوتها المجعد :

- أنت هنا حائر .. لذا فأنا هنا .

لم تبد له إجابة منطقية لسؤاله المباشر ، فتنحنح بعصبية أكثر ، و مال نحوها ظناً منه أنها لا تسمعه جيداً ، و قال بلهجة غير مقنعة ، محاولا تبرير هذا اللقاء لنفسه على الأقل :

- إنما أردت معرفة .. حظى اليوم .

نظرت الى شئ ما فى يديها المصبوغتين بالكامل ، و هو لا يرى منها سوى فمها ، و قالت متنهدة :

- ليس عليك إلا أن تفهم آخر ما قيل لك ، و تنفذه يا بنى .

ثم لملمت حاجياتها الغامضة و العجيبة ، و تأففت بدون مبرر ، ثم رحلت فى هدوء ..

و ظل هو يردد فى ذهنه آخر ما قيل له ، كما أوصت تلك المرأة المباركة ..

(( كل حاجة وقفت ، هى يعنى جت على ساعتك )) ..

ما قاله له عابر السبيل البسيط ..

كل شئ توقف ..

كل شئ ..

كل شئ ؟!!

إذن فحياته أيضاً توقفت ، و هو يكابر ..

إنها المحطة الأخيرة ..

(( ليس عليك إلا أن تفهم آخر ما قيل لك )) ..

هكذا قالت الغجرية التى جائت من أجله ..

(( و تنفذه )) ..

و هكذا أردفت ..

و سينفذه ..

و بآلية جامدة عاد الى منزله ..

و جلس أمام شاشة تلفازه المغلق ..

فتحه ..

رأى منظراً بديعاً لجزيرة وحيدة صغيرة خضراء ، وسط محيط أزرق ضخم شاسع غير متناه ..

و كما توقفت الساعة منذ قليل ..

توقف المشهد على الشاشة ..

و تجمدت نظرته ..

لدقائق طويلة لم يشعر بها .. كان ( غريب ) ..!

أمام الجزيرة ..

و ظل ( غريب ) أمام الجزيرة ..

أصبح ( غريب ) فى الجزيرة ..

بسلاسة ..
وحده ..

فى الجزيرة المنفردة ، وسط المحيط الواسع ..

ترك العالم كله ..

و هناك ..

عادت ساعته الى العمل ، و لم يسعده هذا كالمتوقع فقد عرف ..

و المعرفة تلغى الإنفعالات ..

علم أنه لابد للمرء أن تأتيه اللحظة ، التى يتوقف فيها عقرب الثوانى ..

و لقد حدث له فى صباح هذا اليوم ذلك التوقف ..

أخيراً فى هذا اليوم ..
*    *    *

] تمت بحمد الله [
بقلم / عصام منصور
( القاهرة ) الإثنين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق